حراس الفضيلة : بين السياسة و السلم المجتمعي
تمهيد
مؤخرا ، فاجأت هيئة الأوقاف والشؤون الدينية ، الأوساط الليبية بقرار يحمل رقم 436/2023 ، يعتمد برنامجاً يحمل في طياته الملاحظة والمتابعة والملاحقة تحت اسم ” حراس الفضيلة ” ، و ينص على تشكيل لجنة إدارية ، يناط بها مجموعة من المهام تحمل في طياتها صفة القانونية ، والتي يراد بها صون وحفظ الفضيلة والذود عنها ، بحسب قولهم.
وجديرا بالذكر ، إن معاني ومضمون وحدود الفضيلة اليوم متفاوتة الفهم ، في ضل التباين المجتمعي ضمن أطار التوجهات والأفكار ، فعدم وجود محدات او ابعاد ثابتة يجعل من هذا القرار ، استخدامه كلا علي هواه ، وما يوافق تصوره ومرجعيته الفكرية او المذهبية ، وهذا ما يعارض سلوك مجتمعنا الليبي المحافظ في طبعه والذي تغلب عليه الوسطية والاعتدال.
كان الأحوط لهيئة الأوقاف وهي تجتهد في التصدي ، والمحافظة على شيوع الفضيلة ومعانيها ، أن تقدر لنفسها أسباب ومحددات نجاح تصورها في مالا يخالف السلوك القانوني ، والتوافق و السلم المجتمعي، وأن تنأى بنفسها عن كل مايكرس ويؤكد التجاذب بين فئات المجتمع ومؤسساته ، خصوصاً ونحن نعلم أن مصطلحات ” الانحرافات العقدية، والأخلاقية والفكرية ” يتم تقادفها بين شرائح المجتمع المختلفة في التوجهات والمنطلقات .
فبات مؤكداً للمخالفين للجيهة التي أصدرت هذا القرار ، يرون فيه سلاحاً دينياً مسلطا ، للتضييق والحجر والإقصاء ، ببواعث وغايات مريبة ، تنقل تجارب مستوردة وجديدة علي المواطن الليبي.
ردود الأفعال علي هذا القرار
فإذا علمنا أن مؤسستي هيئة علماء ليبيا ، ودار الإفتاء ، لهما رأي مخالف وهما مؤسستين دينيتين يعبران عن مرجعية دينية، ومدرسة فكرية ، لقطاع واسع من المجتمع ، ولهما جذور راسخة فيه ، هنا ندرك الهوة الواسعة التي تتركها هكذا قرارات في نسيج المجتمع الليبي ، الذي طالما كان يفتخر بوسطيته ، واعتداله ومحافظته على تدينه ، ويرون أن هذا القرار سيكون سيفاً مسلطاً على كل المخالفين فكراً وسلوكاً ، يستخدم متي يشاء ، وكيفما تشاء الجهة التي تبنت إصداره والعمل علي تمكينة وبعثه.
وينبغي لنا هنا أن نذكر نموذجاً من تلك الإعتراضات المعتبرة ، وهو جزء من ملاحظات هيئة علماء ليبيا وردت فعلهم على هذا القرار، حيث ذكرت في بيان صدر عنها قالت فيه ، ” إن هذا البرنامج فيه من المخالفات الشرعية، والقانونية ، والاجتماعية ما لا يمكن الموافقة عليه أو السكوت على سلبياته الخطيرة ، ومن ذلك :
- إن ما تضمنه هذا البرنامج ، لا يدخل ضمن اختصاصات الهيئة التي كفلها لها قانون إنشاءها ، فهو من اغتصاب للسلطة، الذي هو من أشنع عيوب القرارات الإدارية ، و لأن من أخطر الاختصاصات التي اغتصبتها هيئة الأوقاف من خلال هذه اللجنة هي :
1 – حق تتبع الناس، والقبض عليهم ، وحبسهم ، وتقييد حرياتهم حتى يدخلوا في طائفتهم ، ليس لهم أمل في الإفراج إلا ذلك، ومن المعلوم أنه لا يجوز لأية مؤسسة لا تنضوي تحت وزارتي العدل أو الداخلية ، أن تكون لها سلطة المتابعة والحبس وتقييد الحريات.
2 – التجسس على من شاؤوا ، تحت مظلة “حراسة الفضيلة” ، ولهم الحق في التسجيل ، والتقاط مواد إعلامية لمن يتجسسون عليه ، وهو ما يجعل الجميع تحت التهديد وطائلة الفضيحة ، مخالفين قوله تعالي: ﴿ولا تجسسوا﴾.
3 – التدخل في أي برنامج أو منهج تعليمي أو قرار يخالف ” الفضيلة ” ، التي يحرسونها ، وما تحويه من معتقد وفكر وسلوك، يرونه هو الحق دون سواه ، ولا يخفى ما في هذا من سيطرة ، وتسلط ، وتسيير للمجتمع وفق هواهم وحدهم ، ونذكر هنا بمواقفهم المعارضة لهوية البلاد ، بكل مقوماتها الدينية ، والاجتماعية ، والثقافية.
- المصطلحات المستعملة في القرار فضفاضة ، حمالة للمعاني المتباينة ، فيمكنهم تفسيرها بما يريدون ، وحسب توجهاتهم ، ومعتقداتهم ، وفكرهم المتطرف المخالف لتوجه مجتمعنا وهويته.
- في هذا البرنامج تكميم لأفواه كل معارض ومخالف ، ومن بينهم العلماء ، والإعلاميون ، والقانونيون ، والنشطاء الذين كفل لهم الإعلان الدستوري ، والقانون حرية التعبير ، لأنهم سيتهمون بمخالفة “الفضيلة ” التي هم حراسها وحدهم ، وسيكونون مهددين بالحبس ، وتقييد حريتهم حتى يرضوا هم عنهم، جاء هذا في النقطة الثالثة من قرارهم المشؤوم ، غير أنهم عبروا عنه تعبيرا مواربا حين قالوا “استقبال الأفراد المشتبه في كونهم ضحايا … لإعادة تأهيلهم”.
وخلصت رابطة علماء ليبيا إلى رفض هذا القرار ، والبرنامج جملة وتفصيلا، وأكدت على الآتي :
” أولاً : حرصنا التام على نشر الأخلاق الإسلامية بمفهومها المنضبط بضوابط الشرع الشريف، الذي منبعه الكتاب والسنة.
ثانياً : يجب إعمال نصوص القانون الليبي من أجل تحديد ما يعاقب عليه ، وما لا يعاقب عليه ، وتنفيذه من جهات ذات الاختصاص المنحصرة في الشرطة والقضاء.
ثالثاً : لا حق لأية جهة أن تحاسب ، وتحقق ، وتحاكم ، وتحبس سوى ما أعطاها القانون الحق في ذلك، وهما وزارتا العدل والداخلية.
رابعاً : نحذر جميع الوزارات ، والجهات ، والأفراد من الاشتراك في عضوية تلك اللجنة ، أو الموافقة على تمريرها، لما فيه من إذكاء للطائفية ، والعنصرية ، وإثارة لفتن قاصمة ، وفوضى عارمة ، وصدع عميق في المجتمع.
خامسا : نطالب مجلس الوزراء بتحمل مسؤولياته تجاه العبث الصادر من مسؤولي الهيئة التابعة لهم أداريا ، وتنظيميا الذين أثبتوا المرة تلو الأخرى أنهم ليسوا محل ثقة علىٰ هوية بلادنا بكل مقوماتها، ويغتصبون سلطات مؤسسات الدولة، ويتنكرون لعلمائها ” ..
أنتهي رد هيئة علماء ليبيا
الخلاصة
فإذا ما رأينا مستوى وحدة الرفض المجتمعي لهذا القرار ، ندرك خطورته والتداعيات التي قد تترتب على فرضه وتمريره ليكون واقعاً في الدولة الليبية ، لذا فإن هذا القرار حال تنفيذه من المؤكد أنه ستكون له انعكاسات سلبية حادة تهدد الأمن القومي ، والسلم المجتمعي للبلد وتسبب تصدعا عميقا فيه ، لتداخل المهام ، والصلاحيات مع بقية الأجهزة الشرطية ، والأمنية الخاضعة للقوانين الليبية المتعارف عليها ، والصادرة من جهات تشريعية معتبرة.
كذلك لهذا الامر ، تأثير سلبي علي مستوي الإستقرار المجتمعي لظهور ممارسات ، ومهام سلطية ، ورقابية لا يمكن مراقبتها او خضوعها لسلطة غير سلطة من أصدرها ، وتنذر بعواقب قد تكون وخيمة على تماسك المجتمع ونذير بأنقسامه ، وتاكيدا لمفهوم متطرف أرهابي ” من ليس معي فهو ضدي ” ، وهذا من أسوء ما تمر به المجتمعات الانسانية.
وأخيرا … فأن تمرير مثل القرار سيخالف مبدأ ” المتهم بري حتي تثبت أدانته ” وان نفس الجهة تكون هي القاضي والجلاد في نفس الوقت ، وهذا لايحقق قضاء ، ولا عدلا ، ولا يقيم دولة واحدة ذات مرجعية تشريعية وتنفيذية وقضائية ، يحاكم امامها الجميع بالعدل والقانون.
1 يونيو 2023
لتحميل الملف إضغط هنا
هذا المحتوى متوفر أيضًا باللغة: English Français Türkçe Italiano