مشروع الدستور الليبي.. هل تم اغتياله واختطف مجلس النواب مهمة التشريع والدسترة؟
قـــرآءة تفصيليـــة
المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية
الدستور هي الوثيقة الأساسية التي تحدد القواعد والمبادئ العامة لنظام الحكم في الدولة، وتضع الأسس القانونية لحقوق الأفراد وتنظيم السلطات، وتنشر الدساتير مرتبة حسب التسلسل التاريخي لإصدارها واعتمادها.
أما مشروع القانون أو اللائحة يقصد به مسودة التشريع التي أعدت ولم تعتمد بعد من الجهة المختصة، ولازالت قيد الدراسة أو النقاش أو التداول.
وبهذا التعريف القانوني للدستور ومشروع الدستور نجده يختلف عن القوانين كون الأخيرة تنظم مختلف جوانب الحياة وتصدرها السلطة التشريعية، وتنشر حسب التاريخ، نوع التشريع، المصدر، القطاع، الحالة، والجهة المعنية.
وكون الدستور هو الوثيقة المحددة لنظام الحكم وباقي تفاصيل الدولة، فغيابه يعني غياب شكل الدولة الحقيقي، ومعها غياب الحقوق والقوانين المنظمة والحاكمة وتداخل السلطات والصلاحيات، وهذا هو الحال في دولة ليبيا، كونها تفتقد وجود دستور دائم للبلاد تم إقراره عبر استفتاء شعبي، رغم وجود هيئة تأسيسية منتخبة لهذا الهدف.
“هيئة منتخبة وذمة مالية مستقلة”
وبالفعل تم انتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور وفقا للقانون رقم (17) لسنة 2013 الصادر عن المؤتمر الوطني العام والذي شمل في مواده ما نصه: ” تتألف الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور من 60 عضوا، ينتخبون وفقا لأحكام هذا القانون على غرار لجنة الستين التي شكلت عام 1951 م، ويحق لكافة الليبيين من الرجال والنساء ممن تتوافر فيهم الشروط المقررة في هذا القانون ترشيح أنفسهم لعضويتها.
ونص القانون على أن توزع مقاعد الهيئة التأسيسية علي ثلاث مناطق انتخابية، بحيث يكون لكل منطقة عشرون مقعداً، مع مراعاة وجوب تمثيل المكونات ذات الخصوصية الثقافية واللغوية، ويعتمد اختيار الهيئة التأسيسية على النظام الانتخابي الفردي، القائم على الأغلبية البسيطة، ويكون الفائز بالمقعد المرشح الذي يحصل على أعلى عدد من الأصوات، وفي حال وجود دائرة انتخابية متعددة المقاعد يتم اعتماد نظام الصوت الواحد غير المتحول، كما نص القانون بأن تخصص ستة مقاعد للنساء وستة مقاعد للمكونات الثقافية (الأمازيغ، التبو، الطوارق).
وأجريت انتخابات الهيئة وفقا للقانون وبإشراف دولي ومحلي عبر المفوضية الوطنية العليا للانتخابات والتي أعلنت في 26 من فبراير 2014 النتائج النهائية للفائزين بـ 47 مقعدًا، وأحالت النتائج إلى المؤتمر الوطني العام ليقرّر بدوره مسألة المقاعد الـ” 13 ” الشاغرة، فأصدر المؤتمر الوطني العام القرار (25) لسنة 2014 بشأن استئناف العملية الانتخابية في تلك المراكز، وبموجب هذا القرار استكملت المفوضية عملية الاقتراع التكميلية للهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور في المراكز التي تم تأمينها ، وأسفرت النتائج عن حسم (8) مقاعد من بين (13) مقعدا شاغرا ليصبح عدد الأعضاء المنتخبين 55 لرفض مكون الأمازيغ المشاركة في العملية الانتخابية، وبعد حسم مقعد مدينة درنة وبعض المقاعد في مراحل لاحقة وصل عدد الأعضاء 58 عضوا وهو العدد الحالي للهيئة التأسيسية.
ووفقا لقانون الانتخاب يناط بالهيئة التأسيسية صياغة مشروع الدستور الدائم للبلاد، وتتمتع في ذلك بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة.
وفي إبريل 2016 تم الانتهاء من مراحل الصياغة والتنقيح وإصدار أول مشروع دستور دائم للبلاد بشكل فعلي يحوي 12 بابا و220 مادة، وتم تقديمه في مخاطبة رسمية لمجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة ومفوضية الانتخابات وإرسال نسخة رسمية منه.
لكن هذا المشروع تم رفضه بعدما تقدم مجموعة من الأعضاء على رأسهم عضو الهيئة، ابتسام بحيح بتقديم طعن في مشروع الدستور المنجز وفي آلية التصويت عليه، وهو ما استغله مجلس النواب ورفض إصدار قانون الاستفتاء كون المشروع مطعون ضده أمام القضاء، لذا تم إعادة النسخة للهيئة التأسيسية للتنقيح أكثر، وحتى يتم البت في الطعون المرفوعة ضد المشروع.
- مشروع الدستور الحالي
تم إيقاف ورفض نسخة المشروع المقدمة في إبريل 2016 حتى تصدر المحكمة قرارها والتي قضت فيه بعد ذلك بعدم قبول الطعن، لتقدم الهيئة التأسيسية آخر نسخة منجزة من مشروع الدستور الليبي الدائم في يوليو 2017 بعدما تم التصويت عليها بأغلبية مطلقة، وتم إخطار مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والمفوضية العليا للانتخابات بأن ” الهيئة انجزت عملها ووصلت بالفعل لنسخة نهائية لمشروع دستور دائم للبلاد”، مطالبة باقي المؤسسات إنجاز المنوط بهم ، مثل قانون الاستفتاء من البرلمان وكذلك وضع خطة من قبل المفوضية للبدء في عملية الاستفتاء بعد صدور قانونه.
في هذه المرحلة رفض مجلس النواب إصدار قانون الاستفتاء بحجة أن هناك طعون ضد مشروع الدستور لازالت منظورة أمام القضاء، وبالفعل أصدرت محكمة البيضاء حكما بإيقاف مشروع الدستور.
الهيئة التأسيسية طعنت في حكم محكمة البيضاء أمام الدائرة العليا والتي اصدرت حكمها في فبراير 2018 برفض الطعون وإلغاء حكم محكمة البيضاء، كون الهيئة التأسيسية مؤسسة منتخبة انتخابا حرا، وتتمتع بصفة السيادية والذمة المالية المستقلة، ولا يحق لأحد التدخل في عملها أو إنجازاتها أو التشكيك في مخرجاتها.
في هذه المرحلة لم يجد مجلس النواب أي حجج لرفض إصدار قانون الاستفتاء، وبالفعل صدر القانون، لكنه اشترط إجراء الاستفتاء على أساس الأقاليم الثلاثة وليس استفتاء عاما، مشترطا حصول الاستفتاء على نسبة 50% +1 في كل إقليم، وليس في مجموع الناخبين، وهو ما رفضه المجلس الأعلى للدولة مطالبا مفوضية الانتخابات بعدم إجراء الاستفتاء بهذا الشكل المعيب قانونيا.
وبعد مخاطبة الأعلى للدولة لمجلس النواب بتعديل قانون الاستفتاء، استجاب البرلمان للأمر وقام بتعديل القانون وإحالته للمفوضية العليا للانتخابات، والتي ماطلت في تنفيذ الاستفتاء حتى عام 2019 والتي شهدت في شهر إبريل هجوم قوات القيادة العامة برئاسة المشير خليفة حفتر على العاصمة “طرابلس”، وبدأت حالة الاحتراب والاقتتال والفوضى ما يعني تعطل مؤسسات الدولة ومنها مفوضية الانتخابات التي تتحمل في هذه المرحلة جزءا من تعطيل وعرقلة الاستفتاء بمماطلتها وإضاعة الوقت والفرصة.
وذكر رئيس هيئة الدستور أن ” ويليامز رفضت إشراك هيئة الدستور في أية حوارات أو مؤتمرات تُعنى بمناقشة العملية الدستورية ومنها الحوارات الجارية في دولة مصر حول المسار الدستوري”.
الملفت أن الأمين العام للأمم المتحدة أو البعثة الأممية وقتها لم يردوا على هذه الشكوى أو حت يعيرونها اهتماما، بل زادت الهوة أكثر بين البعثة الأممية وهيئة الدستور التي استبعدتها تماما من أية حوارات، وتجاوزت تماما مشروعها الدستوري المنجز في عام 2017، ولجأت إلى استراتيجية تفصيل قوانين ومواد مرحلية عبر تشكيل لجان داخل ملتقى الحوار السياسي تختص بالعملية الدستورية وصياغة قوانين يمكن إجراء الانتخابات على ضوئها ، بل وتماهي البعثة الأممية وقت ويلياميز ومن قبلها ومن جاء بعدها مع أطروحات مجلس النواب بتشكيل لجان رسمية تختص بصياغة دستور بمواد، كل هذا يتم في وجود هيئة تأسيسية منتخبة لازالت قائمة ويتقاضى أعضاؤها رواتب من ميزانية الدولة وكذلك مع وجود مشروع دستور يمكن الاستفتاء عليه في 24 ساعة فقط، كون عملية الاستفتاء معروفة دوليا بأنها أسرع عملية انتخابية حيث ينحصر رأي الناخب بين “نعم أو لا”.
وعليه
فإن استمرار تجاوز مشروع دستوري منجز وتم صياغته عبر لجان قانونية ولغوية في توقيتات تجاوزت الـ3 سنوات، يؤكد أن هذه المؤسسات التي تضاعفت مدة وجودها في المشهد لا ترغب في رؤية دستور دائم للبلاد، لأنه سينبني عليه انتخابات رئاسية وبرلمانية، ومن ثم مغادرة كل هؤلاء للمشهد وربما بلا عودة، وهو ملا يريده كل من يصل للمنصب في ليبيا، ما يعني أن استمرار غياب دستور دائم للبلاد هو استمرار لغياب الدولة، وسيادتها واستقلالها، ويجعلها مرهونة لمؤسسات تحكمها مناطق وشخصيات لها مصالحها وتحالفاتها الإقليمية والدولية، ما يؤثر سلبا على الأمن القومي للبلاد ويجعلها فريسة لاي تدخل أو أطماع تصل لدرجة التحكم في انتخابات تفرز سلطات جديدة للبلاد عبر قوانين معيبة أو قواعد دستورية بها ثغرات وتدخلات.
لذا يوصي المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية مفوضية الانتخابات وهيئة الاستفتاء ومجلسي النواب والدولة والمجلس الرئاسي بسرعة إجراء عملية الاستفتاء على مشروع الدستور المنجز منذ 2017 حتى لو به قصور وعيوب، على أن يتم تعديل هذه النقاط الخلافية في مراحل لاحقة، لكن الأهم الآن هو الاستفتاء على دستور دائم للبلاد، يحتكم إليه الجميع ويلتزم به الجميع، وإلا ستكون فكرة الاستقرار وسيادة الدولة وأمنها القومي في خطر دائم.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)