تمهيد .. دارفور مأساة حقيقية
امتدادًا للحرب المشتعلة في الخرطوم وبعض المناطق المحيطة بها ، والتي إكتوى أهل السودان بويلاتها، يشهد إقليم دارفور ، الذي يحده ثلاث دول من الشمال الغربي ليبيا ، ومن الغرب تشاد ، ومن الجنوب الغربي أفريقيا الوسطى ، وحده الجنوبي دولة جنوب السودان ، فضلاً عن حدوده مع بعض الولايات السودانية مثل غرب كردفان والولاية الشمالية.
حالة غير مسبوقة من العنف المسلح ، جعلت من حاكم إقليم دارفور رئيس حركة جيش تحرير السودان “مني أركو مناوي” أن يعلن ومنذ أيام ” بإن أقليم دارفور منطقة منكوبة”.
ويقول في مستهل حديثه ” أُشعلت الحرب في بلادي بمخطط أُعد له من قبل ، و الذين يديرون الحرب الآن هم مجرد أدوات داخلية على رأسها ” قحاطة “، الذين هم أنسب الأدوات التي قامت بتطبيق المخطط بالحرف، كما رُسم لهم”.
هكذا عبر ” مناوي ” عن حقيقة مايدور في بلاده التي تعيش أوضاع صعبة جداً ، حيث تشير المصادر إلى أن الحرب التي تدور بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في بعض مناطق درافور ، تطورت إلى اشتباكات قبلية مسلحة مستمرة ، وحوادث سلب ونهب واعتداءات جنسية واغتصاب وضحايا بالمئات.
هكذا يبدو الوضع في إقليم دارفور غربي السودان ، حيث الدمار الهائل وشبه الكامل لمدينة ” الجنينة” بغرب دارفور ، وتتحدث الأنباء عن إرتفاع كبير في عدد القتلي والمصابين ، وصل بحسب إحدى المصادر إلى أكثر من ( 1000 قتيل ) ، ونحو ( 1000 جريح ) ، وتدمير ثلاثة عشر حياً في منطقة ” الجنينة” وحدها والتي تعتبر عاصمة غرب دارفور ، الأمر الذي أدى إلى حركة نزوح كبيرة ، تتجاوز بحسب بعض المصادر إلي أكثر من مليون شخص ، كما أن الاشتباكات لحقت بمراكز الإيواء حيث تم حرق إحدي عشر مركز إيواء في المدينة ، وتضرر عدد من المعسكرات ، كما تؤكد بعض المصادر إلى وفاة جميع مرضي الكلي بالمدينة، وأن الإشتباكات القبلية الدامية ما زالت مستمرة ، وذلك حسبما ينقله صحفيون وناشطون وإعلاميون ، كما أن الوضع مهدد بالعودة إلى ذكريات عشرون عاما إلى الوراء ، حيث حوادث ومآسي عام 2003 الدامية.
مثلث جبل العوينات في دائرة الضوء
على الحدود مع ليبيا و قريباً من منطقة ” مثلث جبل العوينات ” ، انخرط الجيش السوداني في معركة شرسة ضد قوات الدعم السريع ، واستولى على قاعدة عسكرية تسمى “شيفروليه ” في الأيام الأولى للصراع، وهي قاعدة ليست بعيدة عن الحدود الليبية وعن مدينة الكفرة عاصمة الجنوب الشرقي الليبي تحديدا ، حيث يقع المثلث الحدودي سالف الذكر ، والذي حوله تدور كثير من الأحداث .
مثلث جبل العوينات ، موقع استراتيجي على طريق الهجرة شمالًا عبر ليبيا إلى البحر الأبيض المتوسط ، حيث توظفه قوات الدعم السريع في الكثير من نشاطاتها المشبوهه في المنطقة ، وتقع قاعدة ” شيفروليه” ضمن محيط المثلث بين السودان وليبيا ومصر في سلسلة جبال العوينات.
تذكر بعض المصادر إن الفصائل المتمردة في دارفور ، لها حضور دائم في جنوب ليبيا ، حيث تتلقى عن طريقه الدعم من مواطنيها ومجموعاتها المسلحة المتمركزة في جنوب ليبيا ، عن طريق منافذ وممرات بريه علي الحدود بين البلدين ، مستفيدة من التضاريس الوعرة و المساحة الشاسعة لمثلث جبل العوينات ، وجديرا بالذكر فقد حذرت السلطات السودانية ” الجيش السوداني ” في وقت سابق من استخدام الأراضي الليبية لإيصال الوقود والمساعدات لقوات الدعم السريع.
واللافت هنا ، أن الاهتمام بهذه المنطقة الحساسة تأخر لسنوات طويلة رغم الأهمية الإستراتيجية لها ، حيث يبلغ ارتفاع جبل العوينات ( 1934 مترا ) فوق سطح البحر ، وهو سلسلة جبلية فى منطقة حدوديه بين ليبيا – مصر – السودان ، يغطى جبل العوينات مساحة قدرها ( 1500 كيلومتر مربع ) ، و تقع معظم مساحته داخل الأراضي الليبية، وقد ذكر البروفسور الالماني ” رودلف كوبر ” وهو أحد ابرز الخبراء المتخصصين في دراسة هذه المنطقة الجبلية ” أن جبل العوينات هو مكان مثالي لتخبئة اشخاص خلف صخور ضخمة ، وكذلك لعبور الحدود من دون المرور على أي نقاط أمنية حدودية “
و تعتبر مناطق إقليم دارفور ليست ببعيدة عن الحدود الليبية ، واندلاع الأشتباكات بين الجيش والدعم السريع في شمال دارفور لاسيما في مدينة ” كتم ” ينذر بخطر وقوع حركة نزوح كبيرة من الجانب السوداني هربا من ويلات الحرب ، وستكون مناطق الجنوب الليبي عرضة لتكدس مجموعات النازحين والفارين المدنيين العزل والمقاتلين المسلحين علي السواء ، وبالتالي من المرجح ، ستكون مدينة الكفرة أكثر المدن الليبية تأثراً بهذا النزوح ، كما أن المدن الأخرى في الجنوب الغربي لن تكون استثناءًا ، خصوصاً إذا علمنا أن البيئة الجنوبية ليست غريبة عن الفصائل السودانية المسلحة ، والتي كانت لها جولات وصولات مع كافة الأطراف السياسية المتنازعة في الدولة الليبية منذ النظام السابق ، وصولا إلي اطراف الصراع القائم الأن.
وإذا ماعلمنا أن موجة النزوح الكبيرة التي وصلت بالفعل إلى الأراضي التشادية والقادمة من مناطق غرب دارفور والمناطق السودانية الأخرى ، لن تستطيع الحكومة التشادية إستيعاب أعدادها الضخمة، مع صعوبة الظروف المعيشية ، والاقتصادية لعموم الشعب التشادي ، لذا فإنه من المرجح جداً أن تواصل هذه المجموعات نزوحها شمالاً تجاه الأراضي الليبية ، حيث المناطق الرخوة أمنيا ، والتي تعتبر الظروف الاقتصادية وسبل العيش فيها هي الأفضل في المنطقة ، و كذلك لغياب سلطة الدولة المركزية عن المنطقة، ووجود حالة الإنقسام السياسي الذي يلقي بظلالها على كل المشهد الليبي ، أمنيا وعسكريا وأقتصاديا واجتماعيا ، كل ذلك سيكون بيئة مناسبة لتلك المجموعات.
مناجم الذهب تستهوي موجات النازحين
إن النشاط الزائد المتعلق بمناجم الذهب ، هو بعدا آخرا يعتبر مغريا ومشجعا للكثيرين للقدوم إلى ليبيا والإستيطان فيها ، مستغلين وجود الوحدات السكنية المنتشرة في الجنوب الليبي ( شرقا وغربا ) ، والتي تقدر بأكثر من ” ثلاثون ألف وحدة سكنية ” لم تستكمل منذ فترة نظام القدافي ، و التي أصبحت عرضة للإستغلال من الوافدين الجدد في مختلف المناطق الجنوبية .
حيث تشير المصادر إلى وجود أعداد قادمة من دول الجوار تتجاوز الآلاف من الذين يشتغلون في المناجم، وتمكنوا بالفعل من الحصول على عوائد كبيرة جداً من خلال التنقيب عن الذهب داخل الأراضي الليبية ، وبيعه إلي شركات و متعهدي بعض الدول في المنطقة ، بعيدا عن أي رقابة من قبل السلطات الليبية المختلفة ، حيث أن المناطق الحدودية بين ليبيا وتشاد والنيجر غنية بالمعادن الطبيعية ، لذلك فإن تجارب من سبقت من العائلات وأستوطنت في الجنوب وأصبح أبنائها يشتغلون في مناجم الذهب ، هو أمر مغري ومشجع للكثيرين .
الدولة الليبية .. وحقيقة مايجري
في هذا الصدد ، لن نتجاوز حين نتحدث عن مؤسسات الدولة الرسمية ، وأجهزتها المختلفة ، والتي صرف عليها طيلة السنوات العشر الماضية مئات الملايين من الدينارات ، و التي كان الغرض منها ، حماية الحدود ومحاربة التهريب بأنواعه المختلفة ، ولكن النتيجة قرابة ربع مليون شخص من دول جنوب الصحراء يعيشون في مختلف مناطق الجنوب الليبي ، والتي سمحت لهم الظروف والفوضى والفساد المنتشر الذي أضعف أجهزة الدولة المختلفة ، بأن يجدوا سبيلهم إلى العيش ، والإستقرار في الجنوب الليبي.
وفي ظل الغياب التام لمنظومة الدولة ، هناك منهم من سمحت له الظروف بحصوله على وثائق ليبية “رسمية او مزوره ” ، والأدهي من ذلك .. منهم من استطاع الإنظمام إلي أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية ، وأمثال هؤلاء ربما هم من سيمثل الدولة في منافذه الجنوبية ، المناط بهم حماية الحدود وحماية المواطن في تلك المنطقة !! .
السؤال الذي يطرح نفسه الآن ، ماهي استعدادات الدولة الليبية بحكوماتها شرقاً وغرباً ، وأجهزتها الشرطية والأمنية والعسكرية ، للتعامل مع سيناريوهات تطور الأحداث في السودان ، وآثارها المحتملة على الدولة الليبية ؟ ، وهل يمكن أن تسارع الأطراف السياسية والأجهزة الأمنية لإستيعاب واستدراك الخطر المحتمل ؟
يمثل هذا الخطر تحديدا علي مختلف أبعاد الأمن القومي الليبي ، والذي من الممكن كذلك أن يعصف بالمنطقة بإكمالها، وينذر بكوارث كبيرة ، تصل ارتداداتها إلى حدود المتوسط ، فلن تبقى الدولة هي نفس الدولة ، ولن يكون سكان الجنوب هم سكانه ، علما بإن أن حكومة الوحدة الوطنية الليبية برئاسة “عبد الحميد الدبيبة ” في أواخر العام 2022 ، كانت قد قررت إعادة فتح المنافذ الحدودية بين ليبيا والسودان ، لإستئناف حركة تنقل الأفراد والبضائع بين البلدين ، في خطوة كانت تعتقد أنها ستسمح بإعادة الدورة الدموية للحركة التجارية البرية بشكل رسمي بعيداً عن التهريب الذي لم ينقطع.
بينما كانت للقيادة العامة في حينها رأي مختلف ، حيث أنه وبقرار من قيادتها “خليفة حفتر” قد تم إغلاق الحدود الليبية السودانية في يناير الماضي ، ومما قالت عن هذه الخطوة ” إنه تصاعد خطر لفصائل المعارضة المسلحة السودانية ، وأنها تنشط على الحدود مع ليبيا “، واعترضت على خطوة حكومة الوحدة الوطنية ، و وصفتها بأنها لن تخدم المصلحة الوطنية ، في ضل استمرار القلاقل الأمنية والعسكرية على الحدود الجنوبية .
هذا التباين بين الحكومات في ليبيا ، هو أحد الأسباب التي استطاع بها أفراد ومجاميع مسلحة من الدول المجاورة من سهولة الحركة على الحدود ، والدخول للأراضي الليبية والأشتراك في أنشطة متعددة ، تشمل التهريب والهجرة الغير شرعية وتجارة وتهريب الوقود والأسلحة والمخدرات والحشيش والحرابة والسطو المسلح ، وكل ذلك يهدد كيان واساس الأمن القومي الليبي.
الخلاصة ...
على جميع مؤسسات الدولة أن تستنفر كل جهودها من أجل احتواء نتائج المعارك العنيفة في السودان ، وأن تسرع في تجنيب المنطقة الجنوبية حالة الإنقسام في المؤسسات الأمنية والعسكرية ، وأن تسارع إلى العمل بكل صرامة ، لتأمين الحدود ، ومنع التسلل والحد من حركة المجاميع المسلحة ، وأن تنتبه إلى أهمية الشريط الحدودي الطويل و الذي يطل على منطقة غنية بالمعادن ، وعلي ان تعمل جاهدة على اتخاذ كافة التدابير اللازمة لحماية و توظيف المناجم في مشاريع التنمية الوطنية ، و تنوع مصادر الدخل ، وأستغلالها في أدوات النفوذ والسيطرة ذات البعد المحلي ، والإقليمي والدولي علي السواء.
وأخيراً
من لم يستطع من المسؤولين وصناع القرار أن يستوعب حقيقة مايحصل في جنوب السودان ، والمخطط الكبير الذي يرسم لدارفور ، و المخططات الأخرى للمنطقة الجنوبية الليبية ، فستوقظه يوما ما ، آهات واستغاثات أهل الجنوب الليبي ، الذين سيكون جزء كبير منهم على أطراف سواحل المتوسط ، هروباً من ويلات و جحيم الحروب و الجريمة.
لتحميل الملف إضغط هنا
هذا المحتوى متوفر أيضًا باللغة: English Français Türkçe Italiano