تحليلات

التواجد الفرنسي في ليبيا: ميزان الربح والخسارة

تمهيد

لعل الكثير من السياسيين والفاعلين والمهتمين بما يحدث في منطقة دول الساحل والصحراء ، وهم يتحدثون عن مستجدات التنافس الدولي للإستحواد على المنطقة، لا يتحدثون في الغالب إلا على جديد الوجود الأمريكي والروسي والصيني ولا تجد أحد يتحدث عن فرنسا، وإن تحدث فهو يتحدث عن خروجها من مالي وبوركينا، وأنها انهزمت وخسرت المعركة ، لكن اذا انتبهنا قليلاً ، وتوقفنا ملياً ، فإننا نجد أن فرنسا لم تخرج فعلياً من الدول التي قيل بأنها  طُرِدت منها ،  فهي واقعيا لم تخرج من المنافسة الإقتصادية والسياسية مع امريكا والصين وروسيا ، ولم تغفل عن عدوها الإستراتيجي في المنطقة، ألا وهو تركيا.

 فالواقع والمعطيات على الأرض كلها تثبت بأن فرنسا لا زالت موجودة وبقوة وفعالية في نفس الوقت،  فعلى سبيل المثال فهي لازالت موجودة في مالي من خلال قاعدتان عسكريتان ” تسالت وغاو “، ومن خلال عملتها  “السيفا”، ومن خلال المفكرين والسياسيين والعسكريين والمؤيدين من عامة الشعب، الذين ينظرون لفرنسا بأنها الحرية والأم والديمقراطية والماضي والحاضر والمستقبل.

وهي موجودة ايضاً  في كل دول الساحل والصحراء الأخرى من خلال الإقتصاد والسياسة ، ومن خلال القوة العسكرية المتمركزة فيها والمتمثلة في قواعدها العسكرية التي هي في حقيقة الأمر عبارة عن شريط استراتيجي يربط الدول الحدودية الساحلية ” النيجر، تشاد مع تواجد في الجنوب الليبي ” ، وذلك لتأمين الموارد في المنطقة مثل نفط و يورانيوم النيجر، وذهب مالي  ،  وكذلك حقول النفط والغاز الليبية للشركة الفرنسية المشهورة ” توتال ”  بمنطقة الجفرة في ليبيا امتداد الي المتوسط ومنها إلى أوروبا ، و قد حاولت أكثر من مرة إقصاء الدول المنافسة لها في إفريقيا وبالتحديد ” أمريكا _ روسيا _ الصين _ بريطانيا _ تركيا ”  ، وكانت محاولاتها الكثيرة من خلال السعي لبناء اتفاقيات وتحالفات مع الشمال الإفريقي، ‏كما أنها تحاول ايضاً أن تصنع توافق وتحالف أوروبي في سبيل الدفاع عن مصالحها مع مصر _ تونس _الجزائر ، إضافة إلى محاولة تحييد تركيا  كي لا تجعل من ليبيا قاعدة لانطلاق نفوذها جنوباً نحو دول الساحل والصحراء وبقية إفريقيا ، والحد أيضاً من انطلاقات الشركات الأمريكية المنافسة، وتسعى و بكل قوة بدعم حلفائها في دول الساحل والصحراء  مع محاولات حثيثة لإستمالة الجزائر في أتون مواجهاتها للنفود التركي.

فرنسا والدور الليبي

لا يختلف اثنان على أن فرنسا تحاول منذ أمد طويل أن تستعيد نفوذها السابق في الجنوب الليبي، وأنها تبحث عن حزمة مصالحها التي تنطلق من رؤيتها الاستراتيجية لنفوذها وحضورها في إفريقيا ، ومن المعلوم أنه أثناء الحرب العالمية الثانية ، استطاعت  فرنسا الدفع بقواتها من شمال تشاد إلى الجنوب الليبي بالتنسيق مع بعض حلفائها المحليين، وقامت بطرد القوات الإيطالية، واحتلال مدينة مرزق في فزان في 16 يناير  1943، ولم يكن وجودها حينها في فزان مرحباً به، بل تعامل معها السكان كمحتل أسوة بالإستعمار الإيطالي ولعل شاهد ذكرى معركة القلعة في سبها يؤكد ذلك ، حيث استشهد فيها قرابة 50 شخصاً من المواطنين الذين جاؤوا من عدة مناطق من فزان والتحموا مع بعضهم البعض بقيادة عبدالقادر مسعود الفجيجي، وروت دماؤهم أرض القلعة بعد تمكنهم من تحريرها، وظلت المنطقة تحت السيطرة العسكرية الفرنسية حتى 1951، عندما أصبحت ولاية فزان بعد ذلك جزءاً من المملكة الليبية المتحدة، بعد ما رفض أبناء فزان أي مشروع يستهدف تجزئة الدولة وصوتوا لصالح بقاء دولة ليبية موحدة، ولا زال أهل فزان يتذكرون تأثير حقبة الإستعمار الفرنسي للجزائر ، و المجازر التي ارتكبت ، ولعل أخبار وتأثير حوادث التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية لا زالت عالقة في ذاكرة أهلها، حيث كان حصول أكثر من 17  تفجيراً، كما أورد الكاتب “عابد الفيتوري” إبن فزان الذي يروي أن والده والكثيرين من سكان فزان توفوا نتيجة لتأثيرات تلك التجارب النووية اتي وقعت في الفترة من 1960 وحتى 1964 ، ولا زالوا يروون أن ذكرى استقلال ليبيا في 1952 ، أسهمت في طرد الفرنسيين من فزان ، وقد أسهمت أيضاً في تجنيب أن تكون فزان مكباً وحقلا للتجارب النووية،  إذ إن نتيجة لما حصل في الصحراء الجزائرية بحسب الكاتب “أصيب الكثير من الناس في فزان بأمراض الجهاز التنفسي والعيون عام 1960،  وانتشرت عدوى حادة فيما بينهم، إلى حد تسمية هذا العام بـ “عام العيون”.

وتبع ذلك “عام الجدري” و “عام الريح الصفراء”، وبدأ سكان فزان يصابون بالسرطان بأعداد أكبر، وسقط مطر حمضي، وابتليت الأرض به  و حسب رواية ” الفيتوري”، فإن كل هذه الظواهر تعود إلى تاريخ 13 فبراير من العام ذاته  حيث كانت أول تجربة نووية لفرنسا في “رقان “، وهي واحة في جنوب الجزائر، حينها فجر الجيش الفرنسي أول قنبلة نووية تفوق قوتها التفجيرية بنحو اربعة مرات القنبلة التي ألقتها الولايات المتحدة الأميركية على مدينة هيروشيما اليابانية، وشكلت القنبلة الأولى بداية سلسلة طويلة من التجارب النووية التي وصل عددها إلى 57 تجربة فجر خلالها 17 قنبلة نووية، عدد اربعة منها تمت في الجو وكانت ملوثة للغاية، ثم بعد ذلك 13 قنبلة باطنية وسط الجبال، حيث اضطرت فرنسا لهذا النوع من التجارب بعد ضغط دولي وتخوف من أن تخالف التجارب طريق النجاح فتكون التكلفة المادية والبشرية عالية ، فيما يؤكد تقرير برلماني فرنسي أن اربعة انفجارات في الصحراء الجزائرية “لم يتم احتواؤها أو حصر أثراها بالكامل”.

وقد شهدت العلاقات بين ليبيا وفرنسا تقلبات مختلفة منذ مجيء القذافي للحكم في 1969 ، فكانت بداية العلاقات قوية وتفاعلية ، حيث شهدت  فترة السبعينيات فترة انتعاش ، تَم فيها بيع فرنسا لليبيا صفقة لطائرات الميراج وصل عددها إلى 50 طائرة ، وتبادل زيارات لقادة البلدين وعلاقات دبلوماسية رفيعة ، ثم جاءت فترة الثمانينات التي شهدت اندفاع القذافي تجاه تشاد ، وسببت مغامرة القذافي تدهور العلاقة مع فرنسا ، وفي الألفية الثانية  شهدت العلاقات عودة معتبرة بزيارة ساركوزي لطرابلس ، ثم بادله القذافي الزيارة إلى فرنسا  بعد فترة وجيزة من زيارة الاول.

وفي أحداث ثورة 17 فبراير كان لفرنسا دور بارز في إنجاح الثورة ، ودفعت بحضورها الدبلوماسي والعسكري من أجل إنجاح الثورة ، وكان ساركوزي يعول هو ومستشاريه العسكريين على أن العمليات في ليبيا ستعيد بناء سمعة القوة العسكرية الفرنسية ، والتي أيضا تضررت بسبب  بعض مواقفها ، ومنها موقفها السلبي الذي سجل ضدها من بعض الدول الغربية في غزو العراق 2003 ، وكانت تطمح إلى أن تكون المحطة الليبية منعطف حقيقي لإبراز فرنسا كقوة عسكرية ، لتحقيق أهدافها وطموحاتها السياسية والأقتصادية .

وحاولت بعد ثورة فبراير أن تصنع لنفسها المبادرة بالاقتراب من الملفات الجنوبية، وأن تعيش الدور الذي ترسمه لنفسها بالهيمنة والنفوذ علي الجنوب الليبي، فقام السفير الفرنسي لدى ليبيا في عام 2012 بزيارة مدينة مرزق في الجنوب الليبي ، هذه الزيارة التي وصفت بأنها غامضة ومشبوهة ومشكوك في غاياتها  و التي يراها البعض أن مضامينها كانت وراء اشتعال الحروب في المنطقة الجنوبية ، خصوصاً وأن الجميع يدرك أنها تضع عينيها على المزيد من النفوذ في الجنوب الليبي ودول جنوب الصحراء  أمتداد الي العمق الافريقي .

ويذكر أنه في تلك الفترة كان البعض نادي بتطبيق النظام الفيدرالي لإقليم فزان، حيث يتم فيه الحصول على منفذ بحري من خلال ضم سرت له ، يسمح بفتح آفاق تجارية واقتصادية واعدة تربط أوروبا بإفريقيا ، وتكون القواعد الفرنسية نقاط ارتكاز حقيقية لحماية هذا المشروع ، ولكن هذه الفكرة  قوبلت حينها برفض كبير ، وتراجع صوت المنادين لها استشعاراً بصعوبة تمرير هذا المشروع.

بعد فترة وجيزة ومن منظور الربح والخسارة، باتت فرنسا تشعر أن مصالحها التي كانت تسعى لها بعد الإطاحة بالقذافي  أصبحت على المحك، وأن القيمة الوطنية والقومية، والعاطفة الدينية الموجودة لذي الشعب الليبي ممكن جداً أن تأخذ الدولة إلى فضاءات لا تستجيب إلى طموحاتها، فبدأت العمل على إعادة ترتيب تفاعلها وحضورها بالطريقة التي تحقق مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.

وجدت في طموحات حفتر لقيادة مشروع عسكري لحكم الدولة سبيلاً ناجعاً وسريعاً وقناة حقيقية تختصر عليها الكثير ، فبدأت مع بعض الأطراف الإقليمية والدولية ، مصر و الإمارات و روسيا في وضع لبنات مشروع حكم عسكري في ليبيا، وكان الدور الفرنسي وإن لم يكن ظاهراً ، لكنه كان يعمل بخطة عمل بواقع ميداني وعملي، تمثل في تزويد حفتر وقواته بالأسلحة  ، والمعلومات الاستخباراتية ، فضلًا عن المساعدة عن طريق قوات خاصة في التدريب، ومجالات أمنية وعسكرية تحت مضلة مكافحة الإرهاب ، والتقارير التي تحدثت عن مصرع ثلاثة جنود فرنسيين في حادث سقوط مروحية بليبيا عام 2016 ، يؤكد حقيقة الوجود الفرنسي الغير معلن في ليبيا بداعي قيادة العمليات ضد الإرهاب  في ذلك الوقت. وكانت فرنسا بتاريخ 13 يوليو 2014  قد أعلنت عن عمليتها العسكرية  التي أطلقت عليها إسم “برخان Barkhane ” والتي تهدف وفق ما هو معلن إلى محاربة الإرهاب على المستوى الإقليمي،  والتي وصل عدد أفرادها في فترات ذروتها إلى اكثر من ” خمسة الاف جندي “، و تقتضي العملية علي الانتشار العسكري علي الساحل الإفريقي وتغطية مناطق الصحراء. وكانت فرنسا تعي أن ليبيا تعاني من فراغ أمني حاد وحالة انفلات حقيقة وأنها أصبحت بيئة مناسبة لبعض المجاميع الإرهابية والمسلحة ، وأن عملية ” برخان Barkhane ” التي أطلقتها تحتم عليها توسيع دائرة عملها لتشمل منطقة الجنوب الليبي والتي تمثل بوابة مناطق دول الساحل والصحراء ، لتحقق بها هدفين اثنين ، أولاهما ضمان نجاح العملية العسكرية ،  والثاني بسط الطريق للعودة إلى مناطق نفوذها السابق ، لذلك حرصت على تفعيل قاعدة “ماداما” في أقصى الشمال النيجر قرب الحدود مع ليبيا، والتي أقيمت في قلعة “ماداما” التي شيدها الاستعمار الفرنسي عام 1931م، وقد أعيد ترميمها و زودت بمطار عسكري لتتحول إلى قاعدة لطائرات الهليكوبتر لتواكب العملية برخان و التي تجعل الجنوب الليبي في سلم أولوياتها.

إن فرنسا التي تستضيف الكثير من نشطاء وقيادات المعارضة التشادية المنتشرة على الأراضي الليبية ، وتعي أنها تمسك بورقة مهمة تستطيع تطويعها وتوجيهها في الإتجاه الذي يخدم مصالحها، ولعل مشاركة بعض الفصائل المسلحة التشادية في القتال مع المشير حفتر في معركة الهجوم على طرابلس خير شاهد على ذلك ، فكما هو معروف، كان واضحاً الدور الذي قامت به فرنسا في 2019  أثناء الهجوم الذي شنه حفتر على طرابلس، ودورها في التواجد في غرب ليبيا من خلال مشاركتها في غرفة عمليات غريان ، وكيف أنه تم تأمين هروب عناصر وخبراء فرنسيين ووصولهم إلى تونس، بعد احتدام المعارك في غريان وسيطرة حكومة الوفاق الوطني آنذاك على المدينة.

مناورات فرنسية جديدة

لقد أصبح واضحاً لدى المتابعين والمراقبين لتطورات المشهد الليبي بأبعاده المختلفة أن هناك مستوى من الجدية في التحركات الفرنسية مؤخراً  ، و اللافت هنا هو دأب فرنسا وحرصها على استعادة النفوذ وأن يكون لها موطئ  قدم جديد  في الجنوب الليبي ، بعد أن فقدت مواقعها مؤقتا في مالي وإفريقيا الوسطى .

  كما أنها  تعي أن فرص النجاح  في ذلك تبدو صعبة وليست سهلة ، بسبب الرفض الواسع للتواجد الأجنبي على الأراضي الليبية ،  وبسبب التاريخ السيئ الذي تركته إبان تواجدها السابق ، واللافت هنا أيضاً أن هذه التحركات الفرنسية المكثفة في ليبيا  تأتي بعد إعلان فرنسا رسمياً بتاريخ  9 نوفمبر 2022  ، انتهاء عملية برخان لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل،  والتي كانت تعول عليها فرنسا كثيراً لإبراز دورها الحيوي في مناطق نفوذها التقليدية ،  لكنها وجدت في محصلة تقييمها للعملية أنها ساهمت في إذكاء الغضب الشعبي ،  وسببت في تزايد العداء لوجود القوات الفرنسية  ، كما أنها كانت عاملاً في حصول عدد من الإنقلابات في اتجاهات لا تخدم فرنسا ، كما حصل في مالي وبوركينا فاسو ،  مما دفع  ببعض القادة العسكريين والسياسيين في باريس إلى التشكيك في فعاليتها ، والمجاهرة بوصف هذه الاستراتيجية بأنها “استراتيجية خاسرة”، حيث وصف أوريليان تاشيه، عضو لجنة الدفاع في الجمعية الوطنية  ، التدخل الفرنسي في الدول من أجل مواجهة ما أسماه “التهديد الإسلامي” بـ”الاستراتيجية الخاسرة”.

وفي تاريخ 8 يونيو 2022  استقبل رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ، المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي لليبيا بول سولير، للتباحث في آخر المستجدّات السياسية، وسُبل تعزيز علاقة التعاون وتعزيز الاستقرار الدائم في ليبيا. وفي إشارة لمستوى الإهتمام الفرنسي بالملف الليبي ، برز تصريح المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي إلى ليبيا بول سولير، في منتصف شهر أكتوبر 2022  إن  ” فرنسا ستلعب دورًا إيجابيًا في استقرار ليبيا وصولًا لاتفاق وحل سياسي، يكمن في تحقيق انتخابات برلمانية ورئاسية متزامنة على أساس إطار دستوري توافقي”.

ومع منتصف عام 2022  برز تزايد لنشاط التحركات الفرنسية للحضور مجدداً في الملف الليبي الذي باتت القوى الدولية تتنافس عليه ، حيث نقل موقع “ليبيا برس” عن مصدر عسكري لم يسمه، قوله إن مجموعة من العسكريين الفرنسيين وصلوا إلى قاعدة “الويغ” العسكرية بالجنوب الليبي ، بهدف معاينتها، وإعادة تأهيلها، وإدخالها للخدمة مجددًا ، بالرغم أن قوات حفتر لم تؤكد وصول الخبراء العسكريين الفرنسيين، إلا أن هذه الأخبار جاءت مباشرة بعد لقاء جمع المشير خليفة حفتر، بالمبعوث الفرنسي إلى ليبيا ، مما ترك تساؤلات حول علاقة هذه الزيارة بالتواجد العسكري الفرنسي المزمع في الجنوب الليبي ، خصوصاً إذا علمنا أن بعض المصادر تذكر أن اجتماع لجنة (  5 + 5 ) الذي كان مقرراً عقده في مدينة سبها تم تأجيله بسبب ما وصفته المصادر بدور فرنسي ما سبب في تأجيل الاجتماع المقرر في مطلع شهر مايو الجاري.

وفي مطلع شهر مايو 2023 ، تحدثت مصادر صحفية عن سعي فرنسا لعقد اجتماع أمني موسع في باريس تهدف فيه  إلى التوصل إلى  اتفاق بين  الفرقاء الليبين و يناقش مختلف القضايا الأمنية المطروحة ، كقضية تشكيل قوة أمنية مشتركة ، وقضايا تأمين الانتخابات المقبلة ، وأن المبعوث الفرنسي الخاص إلى ليبيا بول سولير يعمل جاداً على التحضير لها ، وغير مستبعد أن تعمل فرنسا على أن تشرك بعض القادة الأمنيين والعسكريين من فزان.

كل هذه التحركات هي نتيجة لمراجعات فرنسا لاستراتيجيتها تجاه إفريقيا ، واستشعارها لحدة التنافس الدولي الغير مسبوق تجاه تحقيق النفوذ والتوسع في القارة السمراء بين الدول الكبرى ، والتي لم تعد تحتمل فيه المزيد من الخسائر على مستوى هذا الملف الذي أفقدها الريادة والتنفيذ في بعض الدول التي اضطرت للإنسحاب منها لصالح تنامي التمدد الروسي والصيني.

حسابات فرنسا

تتعلق حسابات فرنسا بين دائرة مصالحها الاستراتيجية التي تتمحور في الأبعاد الإقتصادية والأمنية والعسكرية و السياسية، ودائرة مخاوفها من ضياع نفوذها وتراجع مستوى وقوة تأثيرها في المنطقة التي اعتبرتها مناطق نفوذ تقليدية لها.

فعلى المستوى الاقتصادي، نجد أن فرنسا لها العديد من المصالح في الداخل الليبي، ولعل موضوع إعادة الإعمار هو أحد مسوغات المشاركة الفاعلة لها في إزاحة نظام القذافي في فبراير 2011 ، والتي قدرتها بعض المصادر الغربية في حينها أنها ستتجاوز 300 مليار دولار  ، مما يعني أن الأرقام قد تتضاعف بشكل كبير في ضل ما آلت إليه الأوضاع مؤخراً في المنطقة الشرقية والغربية نتيجة العمليات العسكرية ، وما أحدثته من دمار كبير في بنغازي خاصة ، وبعض مناطق طوق طرابلس ، وكذلك حرب البنيان المرصوص في سرت ، ويأتي على رأسها أيضاً فرص تطوير الأستثمارات الضخمة التي تقدر بمليارات الدولارات من قبل شركة توتال في قطاعي النفط والغاز في ليبيا ، حيث تشير تقارير فرنسية  أن شركة توتال  باتت تستحوذ على ما نسبته” 30% ” من حقل الشرارة في الجنوب الليبي  ، و” 24% ” من حقل قاع مرزوق ،كذلك مانسبته” 16% ” من حقل الواحة ، كما حصلت توتال على” 16.33% ” من شركة الواحة ، وهي أهم شركة نفطية في ليبيا.

كذلك هي تدرك جيدا أن ليبيا هي  الخامسة عربياً من حيث احتياطيات النفط ، وفق التقارير الدورية الصادرة عن منظمة أوبك، ويصل حجم احتياطيها إلى حوالي 50 مليار برميل ، وأن حجم الاحتياطيات المعلن عنها في ليبيا والمؤكدة من الغاز بشكل عام تتجاوز  80  تريليون قدم مكعب.

كما أن إحتياطي الذهب أصبح اليوم محل اهتمام  فرنسي كبير ، حيث إن ليبيا تحتل المرتبة الثالثة ضمن الدول الأكثر امتلاكاً لاحتياطي الذهب بعد الجزائر وجنوب أفريقيا في القارة  ، وفق تصنيف لمنصة ستاتيستا الألمانية المتخصصة في الإحصاءات العالمية لبيانات السوق والمستهلكين ، حيث تشير التقارير ان ليبيا تمتلك  ما لا يقل عن 117 طن من الذهب ، وجديرا بالذكر أن هاجس التمدّد الاقتصادي الصيني في منطقة شمال أفريقيا و جنوب الصحراء خاصة في مجال الطاقة والبني التحتية ، هو أحد دوائر اهتمامات صانع القرار الفرنسي.

أما في ما يخص الجانب العسكري فدائرة اهتمامها بتأمين قواعدها العسكرية في منطقة الساحل والصحراء، هو هدف استراتيجي ، لا تتوانى عن بذل كل مساعيها من أجل التوسع في نطاق عمل قواعدها الواقعة في بعض الدول الإفريقية مثل : قاعدة مداما – اغيلال بالنيجر ، و قاعدة أبشي – فايا ( انجامينا ) _تشاد ، و وجود قوات علي حدود بوركينا فاسو ، كذلك في مناطق بووا – ( بكوتديفوا ) ب ساحل العاج ، وأيضا تواجدها في منطقة أتار – موريتانيا .

وتأتي أهمية هذه القواعد في الحفاظ على الدور والنفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية ، والتي تسعى منها للحصول على موطأ قدم في الجنوب الليبي ، يحقق لها معادلة تأمين مصالحها النفطية اولا ، والعمل على ربطها بقواعدها جنوباً لتوسيع دائرة النفوذ الأمني والعسكري الي العمق الافريقي ثانيا ، إضافة إلى أن أي تواجد عسكري فرنسي في الجنوب الليبي يعني تقليص دائرة تأثير عمل أي قوة عسكرية اخري يمكن أن تتواجد في المنطقة ، وكذلك يسهم في تعزيز مستوى أمن جنوب أوروبا والمتوسط  من خلال ما يردده بعض المسؤولين الأوروبيين من أن أمن جنوب أوروبا من أمن الجنوب الليبي.

أما على المستوى السياسي ، تبرز قضية اهتمامها بمواجهة نفوذ تركيا الصاعد وما يترتب عليه من احتمالية توسع رقعة نفوذها داخل الأراضي الليبية ليتجه جنوباً . وهي تعي أن تركيا تاريخياً ليست جديدة على البيئة ، وتدرك أهمية الوصول إلى عاصمة الصحراء الكبرى سبها ،  والتباين الفرنسي _ التركي واضح جداً حول كثيراً من القضايا الدولية، بالإضافة إلى حقيقة وجود الخصومة التاريخية الفرنسية_التركية والتي يمتزج فيها البعد السياسي بالديني بالجيوسياسي ، خصوصاً إذا علمنا أنه في مطلع العام الحالي ظهر تقارب دبلوماسي بين تركيا وإيطاليا بلد النفوذ السابق في الشمال الليبي بشأن الأزمة الليبية ، ترجم على أرض الواقع بسلسلة محادثات ولقاءات ثنائية احتضنتها أنقرة وروما في زيارات متبادلة بين عدد من المسؤولين من الدولتين، تناولت قضايا تدفق المهاجرين غير الشرعيين ، وإجراء انتخابات في ليبيا ، وملفات أخرى مهمة، وفق ما جاء في بيانات صادرة عن البلدين  ، فيما تنظر فرنسا إلى هذه اللقاءات على أنها تفاهمات وتبادل مصالح على مناطق نفوذها التاريخي .

ولا يغيب هنا استحضار حقيقة التنافس الفرنسي الإيطالي ، وخشية فرنسا من الخطوات الإيطالية للتوسع في مجال  الطاقة ، ويبرز هنا التنافس المحموم حول الاستثمارات في قطاع الطاقة بين شركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية،  وهما الواجهتين الاقتصاديتين للنفود التي تسعى إليه الدولتين في ليبيا ، وكانت إيطاليا قد وقعت مؤخراً عقود استثمار جديدة في مجال الطاقة مع حكومة الوحدة الوطنية ، ثم ما لبثت أن استضافت روما مؤخراً المشير خليفة حفتر، برفقة وفد من قيادته العسكرية ، وبحثت معه جملة من القضايا، منها تأمين الحدود الجنوبية، ومنع تدفق المزيد من المهاجرين ، ونتيجة لهذه التحركات الإيطالية وسعياً منها لتكريس حضورها وعدم إقصائها، تستعد باريس لاستضافة قمة تضم بعض القادة العسكريين والأمنيين  ولجنة ( 5+5 ) ، كما رشح من بعض وسائل إعلام فرنسية.

وكذلك للعمل علي الحد من التوسّع الروسي في المنطقة الذي اصبح واقعاً لامفر منه  ، كمت أن تواجد الفاغنر على الأراضي الليبية بات يشكل إزعاجاً حقيقياً لفرنسا ، خاصة إذا علمنا أن الفاغنر أصبح لها نقاط ارتكاز في الجنوب الليبي، وتوجه للتمدد في اتجاه ماطق النفود الفرنسي سابقا في جنوب الصحراء ، وهو ما تعتبره فرنسا تحديا آخر لها في مناطق نفوذها .

و يبدوا أن التحركات الفرنسية الأخيرة على مستوى ليبيا والعمل علي مواجهة التمدد الروسي فيها ، أنها أغضبت الروس وجعلت من وزير خارجيتها “سيرغي لافروف” يتهم فرنسا بدعم الإرهاب في ليبيا في تصعيد كلامي لافت يعكس صراع النفوذ بين موسكو وباريس على ليبيا ، ولم يتوانى الفرنسيون في الرد على ذلك ، حيث ذكرت المتحدثة باسم وزارة خارجيتها ” آن كلير ليجيندر ” أن ” هذه الاتهامات تعد أكاذيب مخزية” ، وهي تعي أن هذه التصريحات للوزير الروسي تعكس مخاوفها من انعكاس خطوة الولايات المتحدة الأمريكية ، التي قامت بتصنيف منظمة الفاغنر الروسية كمجموعة إرهابية  عقب دخولها القوي في ساحة المعارك بأوكرانيا وخوف انعكاس ذلك على تمدد روسيا في إفريقيا. كما أنها بلا شك تتابع باهتمام تقدير أثر الاستراتيجية الأمريكية الأخيرة المعلن عنها تجاه ليبيا ، وما تحمله من مضامين تتعلق بالجنوب الليبي محل دائرة نفوذها السابق ، وما بدا مؤخراً من حسابات خاصة للإدارة الفرنسية في إدارتها لملفاتها الدولية ، يعبر عن التوجه الفرنسي في عدم التسليم في مناطق النفوذ التقليدية لها للوافدين الجدد ، ولذلك فإنها ترى أن الاهتمام الأميركي المتزايد بالملف الليبي من الممكن جداً أن يضعف من قدرة فرنسا على المناورة السياسية  مع أطراف الصراع السياسي في البلاد ، ويزيد من إرباك حساباتها في ملفات دول الصحراء ، وهو ما يضطرها إلى إعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية حيال الشمال الإفريقي ودول الصحراء.

الخلاصة

ان الايقاع السريع للدبلوماسية الفرنسية بخصوص الملف الليبي يعتبر مؤشر على استشعارها للكثير من التهديدات التي باتت تعمل على سحب البساط من مناطق نفوذها ، فإقليم فزان بمنفذ بحري في مدينة سرت على البحر المتوسط بنظام الحكم الفيدرالي أو بأي صيغة ذات مضمون مستقل ، هو أحد تطلعات فرنسا ، وأحد مطامح الكثيرين الذين يتناغمون مع المشروع الفرنسي لربط الجنوب الليبي بدول مناطق الصحراء، اقتناعاً منهم بضرورة مغادرة وصاية الشمال على الجنوب وسوء تقديرهم لأهميته ، وتقديرا ًلامكانية تنمية ونهظة  فزان بأيادي أبناءها الذين تم خذلانهم من شركاء الوطن ، والدولة الفرنسية وحلفاءها في المنطقة يحاولون أن يستثمروا هذا الخذلان في تمرير مخططهم والذي بات يقنع الكثيرين من ابناء الجنوب.

كما إن العلاقة الفرنسية القوية مع محمد بوعزوم رئيس النيجر هي أحد نقاط التوظيف التي تسعى من خلالها إلى استغلال ارتباطه الإجتماعي بأبناء عمومته من قبيلة أولاد اسليمان في سبها ، لصالح إعادة تمدد فرنسا في الجنوب الليبي ، إضافة الى آفاق العلاقة الواضحة مع المشير حفتر فهي مفتاح مهم جداً في الولوج الأمني والعسكري في الجنوب الليبي ، كما إن فرنسا  تسعى للعمل على ربط القواعد الفرنسية في تشاد والنيجر مع مشروع قاعدة في الجنوب الليبي هو ما يعتبر  حلم فرنسي يتم الترتيب له.

تستغل فرنسا كغيرها من اللاعبين الدوليين ، حالة التهميش التي يشعر بها سكان الجنوب من قبل الشمال ، وتعمل على تضخيم هذا الشعور  بإبراز ذلك في لقاءاتها الغير رسمية مع النشطاء السياسيين من المنطقة، وفي حسابات الربح الفرنسية فإنها لازالت تراهن من خلال نفوذها السابق في الجنوب الليبي على عمق تحالفاتها السابقة مع أطراف محلية، وأنها يمكن من خلالها توظيف هذا العامل لمنع  توسع و انتشار دول مثل تركيا وإيطاليا وروسيا في الجنوب الليبي.

وجود عملة الفرنك أحد أهم الأوراق الرابحة والقوية التي تعزز النفوذ الفرنسي  في إفريقيا والمنطقة ، ليصل مداه إلى الجنوب الليبي ، فالعملة الفرنسية قد تصبح أحدى العملات الشائعة الاستعمال في الجنوب الليبي ، لوجود الأرضية المناسبة لذلك ، من خلال التغيير الديموغرافي القادم من دول تتداول عملة الفرنك ، وأسواق التبادل التجاري والتهريب النشط علي امتداد مناطق سبها والقطرون والمناطق الحدودية .

القواعد الفرنسية في دول الجوار الليبي الجنوبي  تشاد والنيجر ، هي أحد مرتكزات فرنسا التي تعول عليها في صناعة التوسع الذي تنشده ، الى جانب ورقة المعارضة التشادية ، واختراق فرنسا لبعض فصائلها هي أحد الأوراق  المهمه لفرنسا للتأثير في المشهد الليبي ، كما أن علاقتها وارتباطها ببعض المكونات في الجنوب تعتبره نقاط كسب تفتقدها أطراف دولية أخرى.

 وفي مجال الربح والمكاسب ستضل فرنسا أيضاً حاضرة من خلال اللغة ، والإرتباط  التعليمي والثقافي ومن خلال الدولة العميقة ، ونتيجة لذلك فهي تعمل على أن تكون جاهزة لاستعادة وتجديد ما قد تفقده من مساحات باستغلال وتوظيف لتلك العوامل.

الخاتمة

  • إن تعاطي المسؤولين في الدولة الليبية مع حقيقة الاطماع الفرنسية ، لا زال يفتقر إلى البعد الاستراتيجي الذي ينتج عن علاقة متكافئة تعبر عن دوائر مصالح مشتركة ، فأطماع فرنسا في ليبيا تتعدى مرحلة الأماني والرغبات، بل هي واقع بدأت فرنسا في نسجه بسرعة لافتة.
  • لعبة التوازن الإستراتيجي التي قد تقتضيها المصلحة الوطنية في التعاطي مع الفاعلين الدوليين بخصوص الملف الليبي ، تقتضي عدم اتخاذ مواقف حادة ومتطرفة حيالها ، بل يجب استثمار ذلك لمزيد من المكاسب الوطنية ، خصوصاً في الوضع الإنتقالي الذي تمر به الدولة الليبية .
  • على حكومة الوحدة الوطنية فتح الحوار المباشر مع الدولة الفرنسية من خلال مفاوضات مباشرة لإيجاد الأرضية المشتركة لإدارة المصالح والقضايا المتبادلة بين البلدين ، منعاً لأي توظيف أو استغلال فرنسي لبعض الأطراف المحلية في تجييش لبعض المصالح التي لاتخدم الدولة الليبية ، كما حدث مع منظمة اراباتشي الإيطالية .
  • مراقبة الجهات والمؤسسات المحلية التي تسعى بعض الدول للعمل من خلالها لزيادة نفوذها وتوسيع مصالحها على حساب الدولة الليبية ، و وضع حد لتواصل هذه الجهات والمؤسسات الغير رسمية مع الدول الخارجية ، لأنه في الأساس لايعبر عن الدولة ، وقد يجر الدولة الليبية إلي ردود أفعال نتيجة تصرفات غير محسوبة.
  • لعله من المفيد جداً للسلطات الليبية متابعة قضية آثار التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية مع السلطات الجزائرية التي لا زالت تتابع هذا الموضوع مع السلطات الفرنسية ، ولا زالت تمتنع عن أي إجراءات تتعلق بالتعويضات ، لذلك فإن هذه الورقة من الأهمية بمكان وضعها في أجندة الخارجية الليبية ، والعمل سريعاً على توثيق شواهدها المحلية في الجنوب الليبي ، خصوصاً أن الفئة العمرية التي عاصرت هذه الحادثة بدأت في الإنقراض ، و المجهود المبذول من القيادات والشخصيات الوطنية في تحقيق وحدة واستقلال الدولة الليبية في 1952 ، وماترتب عليه من تجنيب استخدام الجنوب الليبي  كحقل للتجارب النووية وسلم لدخول فرنسا للنادي النووي يجب أن يبرز من قبل الجهات المعنية للأجيال الجديدة وأن يتم تسليط الضوء عليه حتى تسهم في إعلاء القيمة الوطنية.

25 مايو  2023

لتحميل الملف إضغط هنا 

 

هذا المحتوى متوفر أيضًا باللغة: English Français Türkçe Italiano

زر الذهاب إلى الأعلى