مع خسارة روسيا نفوذها في سوريا بسقوط الأسد.. هل ليبيا ستكون ساحة جديدة للصراع دولي؟
وحــــــــــدة الدراســـــــات والأبحــــــــــــاث
المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية
مقدمـــة
تشهد الساحة الليبية العديد من التطورات المتسارعة، سواء على صعيد الديناميكيات المحلية من صراعات مؤسساتية وسياسية وحكومية، أو تعاظم النفوذ الروسي العسكري في جنوب وشرق البلاد، بما قاد لزيادة حدة الصراع الدولي وجذب اهتمام الولايات المتحدة ومن خلفه الأوربيين بالملف الليبي.
في حين هدأ الصراع الإقليمي حول ليبيا، مع تحسن العلاقات بين الفاعلين الإقليميين، بالأخص مصر والإمارات وتركيا وقطر، وبناء هذه الأطراف علاقات جيدة مع طرفي الصراع في ليبيا. وفي ضوء الصراع الدولي ” الأمريكي الروسي ” حول ليبيا، كانت هناك عدة تطورات عبرت عن مدى ارتفاع وتيرة هذا الصراع، وذلك بالتزامن مع متغيرين خطيرين هما: أولاً خسارة روسيا حليفها الاستراتيجي في سوريا بسقوط بشار الأسد، وما يمكن أن ترتبه هذه الخطوة من تداعيات على الملف الليبي.
وثانياً الفترة الانتقالية التي تعيشها الولايات المتحدة حالياً مرحلة ” البطة العرجاء “، حيث سيسلم بايدن السلطة لترامب في 20 يناير 2025، وما يمكن أن يتبناه كل منهما من سياسات تجاه ليبيا.
تداعيات وسيناريوهات محتملة
يتعمق النفوذ العسكري الروسي في ليبيا يوماً بعد يوم، في وقت تضغط فيه الولايات المتحدة وحلفائها الأروبيين لاحتواء هذا النفوذ. وبالتأكيد فإن التواجد التركي أحد أدوات هذا الاحتواء، أو على الأقل عامل توازن جيواستراتيجي مهم بالنسبة للناتو في مواجهة روسيا.
ومن هنا يمكن فهم أبعاد موافقة لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الأمة التركي على مذكرة التفاهم المتعلقة بوضع القوات التركية في ليبيا، والتي تشير لمدى حسم تركيا لملف نفوذها العسكري في ليبيا، فهو ليس فقط ضمانة لمصالحها القومية في ليبيا وشرق المتوسط، بل أيضا ركيزة أساسية لدورها المنوطة به في إطار حلف الناتو، والذي يكسبها أهمية ووزن سياسي في إطار هذا الحلف.
كما أن خسارة روسيا لحليفها السوري بشار الأسد، وما قد يترتب عليه من احتمالية مرجحة وطبيعية لخسارة نفوذها العسكري في سوريا، وبالتالي فقدانها لتواجدها الجيوسياسي الحيوي في المياه الدافئة عبر سواحل طرطوس، من المرجح أن ينعكس على الملف الليبي من عدة سيناريوهات:
• السيناريو الاول، من المرجح أن تستميت روسيا في الدفاع عن نفوذها العسكري في شرق ليبيا وعن تحالفها مع خليفة حفتر، لأنه لم يعد أمام روسيا غير ليبيا، لتضمن منفذاً على المياه الدافئة في شرق المتوسط، وهو الهدف الجيوسياسي الذي طالما سعت إليه موسكو. ومن هنا يمكن إدراك طبيعة تحركات الطائرات الروسية ما بين اللاذقية وبنغازي وكذلك القوات التابعة لبشار والتي فرت إلى ليبيا، فعلى الأرجح قد يكون هناك عملية نقل معدات وأسلحة وجنود من قواعدها في سوريا إلى ليبيا.
وإذا شعرت روسيا بتهديد أيضا لنفوذها في شرق ليبيا، قد يصل بها الأمر لدعم ودفع حفتر، مستغلة طبيعة الفترة الانتقالية في الولايات المتحدة حالياً، لإطلاق عملية عسكرية جديدة للسيطرة على العاصمة وهزيمة حلفاء تركيا في ليبيا، كما فعلت أنقرة مع حلفاء موسكو في سوريا، وهو ما يمكنها من تعويض خسارتها وتأمين نفوذها في ليبيا. لكن العائق الرئيسي هو انشغال روسيا بحرب أوكرانيا واحتمالية عدم استعدادها لفتح جبهة جديدة، وبالتالي قد يكون لهذه الخطوة نتيجة عكسية تماماً، تقود لخسارة روسيا المعركة ومعها نفوذها في ليبيا.
• السيناريو الثاني، انتصار الثوار في سوريا وسقوط الأسد ليس انتصاراً محلياً فقط، بل هو أيضا انتصاراً إقليمياً لتركيا وتعزيزاً لنفوذها الإقليمي عبر ضمان حليف لها في دمشق. وبحسبة توازنات القوى في الإقليم، فإن هناك العديد من الأطراف الإقليمية والدولية التي لن تسمح لتركيا كحد أدنى أن تنتصر أيضا في ليبيا وتحسم مسألة النفوذ فيها بشكل كامل بما في ذلك شرق البلاد، وكحد أقصى قد تأخذ هذه الأطراف خطوة استباقية وتدفع حفتر لإطلاق عملية عسكرية بها قدر من المخاطرة، للسيطرة على العاصمة طرابلس وإنهاء النفوذ التركي فيها، بعد تعزيز الأخيرة نفوذها في سوريا.
• السيناريو الثالث، مع خسارة روسيا لنفوذها في سوريا، قد تجد الولايات المتحدة في ذلك فرصة لمزيد من الضغط على روسيا في منطقة الشرق الأوسط عبر البوابة الليبية، لإضعاف نفوذها في ليبيا وتشتيت جهودها ما بين ليبيا وأوكرانيا، بالأخص خلال الفترة المتبقية لجو بايدن في البيت الأبيض، خاصة وأن الأخير يسعى لزيادة التوتر الجيوسياسي مع روسيا في العديد من الملفات، لقطع الطريق أمام دونالد ترامب في مساعيه المتعلقة بتخفيف التوتر مع روسيا، بشكل يقود لإنهاء الحرب الأوكرانية بصيغة قد لا تصب في صالح الغرب من الناحية الجيواسراتيجية.
وفي ذلك تقف الولايات المتحدة أمام نهجين،
الأول محاولة ثني حفتر عن تحالفه المتنامي مع الروس، لذلك تتزايد الزيارات الأمريكية لشرق ليبيا ولقاء حفتر وأبناءه
النهج الثاني احتمالية إشغال روسيا في ليبيا عبر إشعال حرب داخلية من جديد بين شرق وغرب البلاد. أي أن الولايات المتحدة وفقاً لهذا التحليل، هي التي قد تدفع نحو خيار الحرب وليس روسيا.
• السيناريو الرابع، بعد وصول ترامب للبيت الأبيض، هناك احتمالية لعقده صفقة، كعادته في التعامل مع ملفات السياسة الخارجية، قد يكون مضمونها هو الربط والمقايضة بين وقف الحرب الأوكرانية مقابل الاعتراف بالنفوذ الروسي في ليبيا، بل وقد يعطي ترامب الضوء الأخضر لحفتر للسيطرة على العاصمة طرابلس بدعم روسي. وبالمناسبة، قد يلجأ بايدن في الفترة المتبقية له لنفس الحل، وإن كان ليس مرجحاً بشكل كبير، وهو دفع حفتر لإطلاق معركة جديدة مع المنطقة الغربية للسيطرة على العاصمة، ولكن بهدف آخر وهو أن يكون ذلك في مقابل تخليه عن تحالفه مع الروس. مع الأخذ في الاعتبار وجهة النظر الأخرى التي تقول بأن الولايات المتحدة لا تمانع تواجد روسيا في ليبيا، لاستخدامها كفزاعة وأداة ترهيب لحلفائها الأوروبيين وجعلهم باستمرار في حاجة لظهير أمريكي، حيث تواجد روسيا في ليبيا، يجعل الأمن القومي الأوروبي منكشفاً من الجنوب، في ملفات: الهجرة الغير شرعية، الطاقة و الانتشار العسكري. هذا فضلاً عن أن بايدن وترامب، إذا ما فكرا في هذه الخطوة، عليهم أن يأخذوا في الاعتبار مصالح حليفتهم تركيا في غرب البلاد، فهي عقبة كبيرة في هذا الطريق، خاصةً وأن تركيا ترى في تموضعها في ليبيا ضمانة لأمنها ومصالحها القومية في شرق المتوسط، وليس فقط مجرد دوراً وظيفياً في إطار عضويتها في حلف الناتو.
الخلاصـــة والتوصيـــات
يمكن القول بأن الساحة الليبية قد تكون الآن مهيأة محلياً وإقليمياً ودولياً أكثر من أي وقت مضى لاندلاع حرب جديدة بين شرق وغرب البلاد عن طريق عدة محفزات مختلفة؛ فالصراع والتوتر بين المؤسسات الرسمية على أشده، بالأخص ما بين حكومتي الشرق والغرب من ناحية، والمجلس الرئاسي والنواب من ناحية ثانية، وداخل المجلس الأعلى للدولة من ناحية ثالثة.
كما أن خسارة روسيا نفوذها في سوريا سيجعلها أكثر تمسكاً بنفوذها في ليبيا، بل وقد تسعى لتعزيز وتوسيع هذا النفوذ نحو العاصمة، لتعويض خسارتها في سوريا وتأمين موطأ قدمها الوحيد في المياه الدافئة. وتزامن ذلك مع نهاية فترة بايدن وبداية حكم ترامب، واحتمالية تصعيدهما للتوتر في ليبيا، ولكل منهما حساباته المختلفة من هذا التصعيد.
وأخيراً إخلال تركيا بموازين القوى الإقليمية بعد انتصار حلفائها في سوريا، بما قد يدفع بعض الأطراف لإضعاف نفوذها في ليبيا، لضبط موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، وهو لن يحدث بدون حرب داخلية جديدة.
لكن ذلك لا يعني أن الحرب حتمية، فهناك احتمالية لتجنبها، خاصةً وأن هناك عدة عوامل خارجية قد تعوق اندلاعها؛ كرغبة الأوروبيين في استقرار ليبيا، والتهدئة الحاصلة بين الفاعلين الإقليميين في الشرق الأوسط، بالأخص مصر وتركيا، وانشغال روسيا في الحرب الأوكرانية، واصطدام الولايات المتحدة بمصالح حليفتها تركيا في المنطقة الغربية. فضلاً عن الديناميكيات المحلية الأخرى التي قد تساهم في التهدئة، وهي وجود توازن قوى محكم بين قوات الشرق والغرب الليبيين تجعل حسم الحرب من قبل أحد الطرفين أمراً ليس بالسهل، فضلاً عن إجراء المجوعة الأولى من انتخابات البلدية وحل أزمة المصرف المركزي، وهي خطوات يمكن البناء عليها للتقدم خطوات للأمام وليس للخلف.
ومن أجل تجنب الحرب، على الفرقاء الليبيين إدراك طبيعة التغيرات الجيوسياسية في المنطقة والعالم ودوافع القوى الإقليمية والدولية الحقيقية، وعدم الانخداع والانجرار خلف أي محفزات دولية أو إقليمية نحو الحرب، لأنه مهما كانت التطمينات فمن الصعب لأي طرف حسمها بشكل نهائي في ظل موازين قوى متماسكة بين الطرفين، سواء على مستوى تراكم القوة أو دعم الحلفاء، فإذا كانت روسيا داعمة لحفتر فهناك تركيا في الجانب المقابل. وفي ظل هذه الوضعية، لن يكون هناك رابح من المعركة، وبدلا من صيغة “Win-Win”ستكون النتيجة “Lose-Lose”، أي الخاسر الأكبر الدولة الليبية وكل فرقائها.
وبالتالي، على كل الأطراف الليبية في شرق وغرب البلاد، إذا لم يكن لديهم الرغبة أو القدرة على إنهاء الانقسام السياسي الحالي وتوحيد البلاد، فعلى الأقل لا ينخرطوا في حرب جديدة بينهم، ستأتي على مصالح الليبين، وستُعيد الدولة سنوات للوراء. ويمكن لمصر وتركيا، ومعهم القوى الأوربية المتضرر الأكبر من عدم استقرار ليبيا، حشد الجهود للحيلولة دون وقوع هذه الحرب، والتي تجنبها أمر ممكن لحد كبير.