أبعاد الموقفتقارير وتقديرات

طوبوغرافيا وادي درنة في مواجهة إعصار دانيال

 

لم يكن من المتصور أن تكون لتضاريس مدينة درنة ، من خلال الأودية والشلالات المائية التي كانت تقدم درنة كمدينة تزخر بالمناظر الطبيعية المائية ، أن تتحول بفعل تلك الأودية والشلالات إلى مدينة يسودها الدمار والخراب، وإلى مدينة منكوبة تعمها الفواجع والآلام ، فمرور إعصار ” دانيال ” المرعب على المنطقة كان كارثي ، حيث حُوصرت درنة من جراءه  بين ارتفاع  أمواج البحر الهائلة وفيضان السدود ثم انهيارها وتحطمها ، إضافة إلى طبيعة التضاريس الجغرافية للمدينة التي ساهمت في تفاقم أضرار انهيار السدود. 

وادي درنة الكبير هو أحد معالم المدينة الذي تحول ليكون وادي كارثي بفعل العاصفة ، حيث امتلأ الوادي الذي انغمر بمياه الأمطار التي سببها إعصار ” دانيال” ، وارتفع مستواها بشكل غير مسبوق ، لتشكل ” طوفانا ً” وضغطاً هائلاً على أهم سدين يحجزان المياه في الوادي فانهارا، ما أدى إلى ارتفاع أعداد الضحايا والخسائر المادية. 

ويعد وادي درنة المكان الوحيد الذي تجتمع فيه المياه المنحدرة من كافة وديان الجبل الأخضر الليبي شمال شرقي البلاد، و يتجاوز طوله 70 كم ، ومساحة حوض التجميع له تبلغ 575 كم مربع ، ونتيجةً لتكرار حدوث الفيضانات في مدينة درنة بسبب مرور الوادي بوسطها، أوصت دراسات سابقة أُجريت في الستينيات بضرورة إنشاء أكثر من سد، من أجل حماية المدينة ولحجز الكميات الهائلة من المياه التي تجري بالوادي في وقت الفيضان وينتهي بها الأمر بالبحر. 

تضاريس المدينة  

تقع مدينة درنة في شرق ليبيا على الساحل الشرقي للبلاد ، وتحظى المدينة بتضاريس مميزة ، فهي تمتد على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، يحدّها من الشمال البحر الأبيض المتوسط ومن الجنوب سلسلة من تلال الجبل الأخضر، ويشطرها لنصفين مجرى الوادي الكبير الذي يعد من أهم معالمها ، كذلك تحدها سهول ووديان خصبة من الشرق والجنوب ، تعمل هذه المناطق الزراعية على توفير مصادر غذاء مهمة للمدينة وللمناطق المجاورة. 

طبيعة السدود والممرات المائية 

في بداية السبعينيات قامت أحدى الشركات اليوغسلافية ببناء سدين ركاميين (القلب من الطين المدموك ، والجوانب من الحجارة والصخور) علي طول وادي درنة من الجنوب الي الشمال ، لتأمين احتياج المدينة من المياه ، ولعدم حصول فيضان للمياه المتدفقة على طول الوادي. 

يعتبر وادي درنة مصب لكل السيول القادمة من جنوب درنة من مناطق المخيلي والقيقب والظهر الحمر والقبة والعزيات ، وبحسب الخبراء، فإن هذا الوادي هو أهم وأشهر وادٍ في ليبيا ، ومن أبرز المعالم، ليس على مستوى المدينة فحسب، بل على مستوى الدولة الليبية ، وبذلك تتميز مدينة درنة بوجود العديد من السدود والممرات المائية علي طول الوادي ، ويوجد في درنة سدين رئيسيين، هما:

الأول : يسمي “سد البلاد”، وهو سد ترابي يقع شرق البلاد في جنوب المدينة على واديها الكبير ، يهدف هذا السد إلى توفير المياه للري والشرب ، كما يساهم في حماية المدينة من الفيضانات، وقد تم بناء السد في عام 1968 على بعد 5 كيلومترات جنوب المدينة ، ويبلغ ارتفاعه 20 مترًا وطوله 300 متر. وبعد التطور والتوسع العمراني الذي شهدته المدينة أصبح سد البلاد يبعد مسافة حوالي 1 كم جنوبا من قلب المدينة ، بسعة تخزينية في حدود 1.5 مليون متر مكعب. 

الثاني : سد سيدي أبو منصور”، ويقع في مجرى وادي درنة ، تم بناؤه عام 1986، ويبعد حوالي 13 كم جنوب السد الأول ،ويعتبر هذا السد من السدود الترابية ، يبلغ ارتفاعه 40 متراً وطوله 180 متراً ، وهو سد كبير تصل سعته بحسب بعض المصادر إلى حوالي 22.5 مليون متر مكعب ، حتى أنه لم يمتلأ بشكل كامل من قبل ، وكان مصمماً على أن يوفر الحماية من الفيضانات لأكثر من 20 ألف شخص في مدينة درنة ، والمساعدة في توفير المياه للري.  

 درنة تاريخ من الكوارث 

لقد شهدت مدينة درنة، بحكم طبيعة وتضاريس الوادي فيها، محطات كارثية عبر تاريخها الحديث، شكلت للمدينة حالة من الخطر المستمر. ففي آخر 80 عام  توالت على المنطقة سلسلة من الحوادث، أهمها:

  • عام 1941، حدث فيضان كبير في وادي درنة ضرب المدينة وجرف من قوته عدد كبير من المعدات والعتاد العسكري ، الذي شمل دبابات وآليات حربية للقوات الألمانية إلى البحر أثناء الحرب العالمية الثانية، وخلف أضرار بشرية كبيرة لم يتم تسجيل عددها في ظل ماكان من أحداث وانشغال العالم بالحرب العالمية في حينها.
  • عام 1959، تشير المصادر إلى أن أن فيضاناً كبيراً آخر حدث بسبب ارتفاع مستوى المياه في الوادي ، أوقع عدد كبير من القتلى والمصابين ، الذين تجاوزت أعدادهم المئات ، وأسهم في تدمير العديد من المنازل وأحدث كارثة في المنطقة.
  • شهدت أعوام 1968 و1969 أيضا فيضانات أخرى، بسبب وادي درنة ، لكنها لم تسجل فيها أضراراً كبيرة وقتها.  
  • في عام 2011 تكرر سيناريو الخطر بالنسبة للمدينة من جديد ، بعد أن حاولت السلطات المحلية فتح السدود لتصريف المياه التي تراكمت وقتها بفعل الأمطار الغزيرة وكادت المدينة تغرق. 
  • رصد ” المركز العربي للمناخ ” أن ليبيا شهدت كثيراً من العواصف والأعاصير خلال العقود الماضية ، من بينها عاصفة ” ماكسيمو” التي ضربت الساحل الغربي للبلاد في عام 1982، تلتها عاصفة ” سيلينو” قرب سرت في يناير 1995، وعاصفة ” زيو” التي مرت على طول الساحل الليبي في ديسمبر 2005، ثم عاصفة ” رولف ” في نوفمبر 2014 وطال تأثيرها الشمال الليبي ، كما مرت بسواحل ليبيا عاصفة ” كاسيلدا ” القادمة من اليونان في سبتمبر 2020، لكن البلاد لم تشهد حينها سوى أمطار خفيفة إلى متوسطة بغالبية مناطق الشمال الشرقي ، وكانت قوية على الجبل الأخضر. 

وفي العام الذي يليه، شهدت بعض سواحل شرق ليبيا، وخاصة منطقة ” الحمامة “، عاصفة ” تورنادو”، أو كما عرف حينها بالإعصار ” القمعي” المصغر، لكنه مرّ بسلام على البلاد.

 

أسباب الكارثة

هناك عدد من من الأسباب أو العوامل التي ساهت في حجم هذه الكارثة وفداحتها، أهمها:

أولاً ، العوامل الطبيعية : تساقطت أمطار غزيرة على مدينة درنة والمنطقة المحيطة بها في 11 و12 سبتمبر 2023 ، حيث تجاوزت كمية الأمطار في بعض المناطق 400 ملليمتر، وهي كمية لم تسجل منذ أكثر من 40 عاما ، أدت هذه الأمطار الغزيرة إلى فيضان الأودية والشواطئ ، وغرق الأحياء السكنية ، وتعتبر كميات الأمطار التي سقطت في فترة أقل من 24 ساعة في حوض تجميع الوادي متجاوزة المعدلات الطبيعية ، وهذا يعني أن حوض التجميع استقبل ما يزيد عن 115 مليون متر مكعب من المياه ، وهي كمية أكبر بكثير من قدرة تحمل السدود مجتمعه ، وهذه الكميات لم تسجل سابقا في كل الفيضانات المسجلة. كل هذا أدى في النهاية إلى انهيار سدي ” البلاد ، وسيدي أبومنصور” ، مما تسبب في فيضانات كبيرة في مدينة درنة وتدمير عدد كبير من المنازل والبنية التحتية ، حيث وصل الدمار لأكثر من ربع المدينة ، وأسفر عن آلاف القتلى ، وفقدان الآلاف أيضاً، كما تسبب في نزوح الآلاف من الأشخاص.

ثانياً، العوامل البشرية : زحف المباني  والطرق والمنشآت على ضفاف الوادي بشكل عفوي وفوضوي ، عبر إنشاء الطرق والمباني طيلة الخمسين سنة السابقة ، نتيجةً لاستشعار السكان لدور السدود، مما خلق حالة من الإطمئنان لدى الناس. و نظراً لأن مدينة درنة ، بحسب كل الدراسات ، منطقة جبلية وعرة ، حاول السكان التكيف وابتكار حلول لهم وسط غياب و نقص حضور الدولة في تأسيس وتطوير البنية التحتية والمناطق العمرانية ، والتي جعلت العديد من الطرق والمنازل غير مجهزة لمقاومة الفيضانات.

ثالثاً، العوامل السياسية : تعاني ليبيا من صراع سياسي منذ عام 2011 ، أدى إلى ضعف المؤسسات الحكومية وصعوبة التنسيق بين الجهات المعنية ، وتوالي الحكومات المتعاقبة ، وانقسام مؤسسات الدولة بأعلى مستوياتها الحكومية والخدمية ، والذي أدى بدوره  لتزايد معدلات الفساد وضعف أدوار الأجهزة الرقابية والمحاسبية ، مما انعكس على مستويات التطوير والبناء والتشييد على عموم مستوى الدولة ، ولم تكن درنة استثناءا ، حيث عانت المدينة لتفرات طويلة منذ تسعينيات القرن الماضي من الإهمال والتهميش وعدم دعم أي مبادرات للتطوير وإعادة الاعمار،  بسبب ما كانت تسببه المدينة وأهلها من أزعاج  وتمرد علي نظام القذافي سابقا.  

 خلاصة القول

تعيش ليبيا الآن واحدة من أخطر الكوارث الطبيعية التي مرت عليها في تاريخها الحديث ، فهل تكون دافعاً للفرقاء السياسيين في الشرق والغرب لتجاوز خلافاتهم ، وتفضيل مصلحة الوطن على مصالحهم الشخصية الضيقة ، ليس فقط لإعادة إعمار ما تهدم خلال هذه الكارثة ، بل أيضا لبناء دولة ببنية تحتية قوية تستطيع مجابهة مثل هكذا كوارث، إذا ما تكررت، بخسائر أقل على مستوى الأبنية والبشر

لتحميل الملف من هنا ….

زر الذهاب إلى الأعلى