أبعاد الموقفتقارير وتقديرات

قرار النيجر إلغاء قانون مكافحة الهجرة الغير شرعية.. أبعاده وتداعياته على الأمن القومي الليبي

أبعــاد الموقــــق 
المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية

الأبعـــاد الدوليــة للقــرار وارتداداتــه

بتزايد تدفق المهاجرين الأفريقيين إلى الدول الأوروبية عبر البحر المتوسط، تكون الدولة الروسية قد نجحت فعلياً في تحقيق بعض أهدافها في أفريقيا، في إطار صراعها مع القوى الغربية. فروسيا تحاول التموضع في القارة الأفريقية وتشكيل نفوذ حقيقي فيها يخدم استراتيجياتها، ويمكنها من السيطرة على الذهب والنفط والموارد الطبيعية في القارة، وذلك عبر مجموعة الفاغنر. وقد نجحت بالفعل حتى هذه اللحظة في خلق حالة عدم استقرار، عبر سياسة دعم التمرد والانقلابات، في بعض الدول الأفريقية، مثل دول أفريقيا الوسطى ومالي والسودان والنيجر.

إن حالة عدم الاستقرار الحاصلة في منطقة الساحل والصحراء الأفريقية هي نتاج صراع دولي، وتشبه إلى حد كبير ما حدث في الحرب العالمية الأولى، حيث بدأت باجتياح بسيط الى أن وصلت لمرحلة المواجهة بين الكبار، وتحولت فيها الدول الصغيرة إلى ساحات مواجهة. وفي الصراع الدولي في منطقة الساحل تعد ليبيا أحد ساحاته. وهنا تبرز المساعي الروسية للتموضع عسكرياً في ليبيا.

وفي هذا السياق، يأتي لقاء المُشير “خليفة حفتر” بنائب وزير الدفاع الروسي “يونس بك يفكيروف”، في الرجمة، وذلك بالتزامن مع وصول مجموعة من الضباط الروس لـقاعدة القرضابية والجفرة وبراك الشاطئ، للبدء في عملية الاستبدال التدريجي لقوات الفاغنر بعناصر تابعة لوزارة الدفاع الروسية، تمهيدا لتكوين ما سيطلق عليه الفيلق الافريقي في بداية العام القادم 2024.

وتأتي هذه الخطوة ترجمةً للاتفاقية التي وقعها نائب وزير الدفاع الروسي مع المشير حفتر في شهر أغسطس الماضي، ومتزامنةً مع دعوة وزير الاستثمار في حكومة أسامة حماد “علي السعيدي”، والتي دعي فيها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتن”، لإنشاء محطات نووية سلمية في ليبيا لإنتاج الطاقة، مع فتح الحكومة الطريق أمام شركات الطاقة الروسية للاستثمار في جنوب وشرق البلاد. وتأتي كل هذه التحركات لتعبر عن مستوى الجدية التي تبديها روسيا لتعزيز مناطق نفوذها، في إطار تنافسها الدولي مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وهي تدرك أهمية ساحل الشمال الإفريقي المطل على جنوب أوروبا في إدارة ملف النفوذ والسيطرة على المتوسط.

وجديرا بالذكر، فإن من شأن هذا أن يجعل خطط أوروبا لاحتواء الهجرة تتعرض إلى صدمة كبيرة دون تعاون دولة النيجر، وأن الظرف يحتم عليهم الانتباه للحالة الليبية وتأثيرات القرار عليها، وأنه من المفترض أن تكون لليبيا أولوية أوروبية في 2024، بسبب هذا القرار.

وبالتالي، هذا القرار هو تهديد حقيقي للمصالح الأوروبية؛ فالأهمية الجيو استراتيجية لمنطقتي الساحل الأفريقي وساحل شمال أفريقيا للدول الأوروبية، من حيث ضمان الأمن والاستقرار ومكافحة الهجرة الغير شرعية المرتبطة بأوروبا، هو أمر بالغ الأهمية، وتبذل فيه الدول الأوروبية كل جهودها لتعزيز شراكاتها مع تلك الدول الواقعة في تلك المناطق، خصوصاً مع ما تشهده أوروبا من أزمات في الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية. لذلك، فهي تسعى إلى توسيع نفوذها الاقتصادي والعسكري في الدول الأفريقية، إضافةً إلى الاستحواذ على مصادر الطاقة. ولكن، جاءت الانقلابات العسكرية التي تسببت في الإطاحة بالرؤساء الحلفاء لأوروبا، لتهدد مصالحهم وتوضح عجز وفشل هذه الدول عن تحقيق أهدافها بمنطقة الساحل، بالأخص فرنسا.

ولهذا، فإن ما كانت تحذر منه وتخشاه إيطاليا تحديداً من أن يتسبب انقلاب النيجر في وقف “خطة ماتي من أجل إفريقيا” الجديدة التي روجت لها إيطاليا كثيرًا ، والتي تهدف إلى تقديم بديل جدي لظاهرة الهجرة الجماعية من خلال العمل والتدريب وإيجاد الفرص، وتعزيز شراكات الطاقة مع الشركاء الأفارقة، بات واقعاً بعد هذا القرار.

لذلك، فإن انتقاد الشركاء الأوروبيين، وتحديدًا إيطاليا، لسياسة فرنسا في الساحل والتي تسببت في تزايد تدفق المهاجرين على الحدود الجنوبية لأوروبا لها ما يبررها؛ فبعد سنوات من تقديم الدعم الأوروبي لفرنسا في المنطقة، مقابل الحصول على موارد الطاقة والمعادن من القارة الأفريقية، كانت المحصلة عكسية ومخيبة للآمال.

إن ردود الأخيرة تعبر عن إدراك ليبي رسمي لخطورة هذا القرار، فما هي تداعياته على الأمن القومي الليبي؟

يمثل قرار النيجر إلغاء قانون تجريم الهجرة الغير شرعية تهديداً مباشراً للأمن القومي الليبي، فمن شأنه أن يغرق ليبيا بالمهاجرين الغير شرعيين، ويعرضها إلى كوارث كبيرة أمنية واقتصادية وديموغرافية، قد تؤثر على تماسك الدولة ووحدتها. إن الأسباب الجذرية للهجرة ليست فقط الفقر وانعدام الفرص، وإنما أيضا النزاعات والأوضاع الغير مستقرة أمنياً وسياسياً.
فانقلاب النيجر والتخوف من مصير الدولة بعد المواقف الأوروبية المتشددة تجاه الانقلاب، جعل السلطات الليبية تخشى من تحول 18 مليون نسمة تعيش تحت خط الفقر بالنيجر إلى منطقة الجنوب الليبي. وسبقت النيجر في حالة الفوضى دولة السودان، والتي تشهد حرباً داخلية وخروقات أمنية وعسكرية غير مسبوقة. إضافة إلى وجود قلق حقيقي من امتداد سلسلة الانقلابات إلى دولة تشاد، وكل هذه الدول محاذية للحدود الجنوبية الليبية.

فمن الناحية الأمنية، تبرز الآثار المترتبة على موجات الهجرة من خلال مساهمة المهاجرين في تكوين عصابات التهريب، والتي تعمل في تجارة البشر والمخدرات. كما أن تزايد أعداد المهاجرين يزيد من احتمالية رفع معدلات الجريمة، بسبب تدني مستوى تعليم المهاجرين، ورغبتهم في الحصول على المال لسداد مستحقات رحلة الهجرة الطويلة، مما يضطرهم إلى ارتكاب الجرائم المختلفة، والانضمام إلى عصابات الجريمة المنظمة والتهريب.

فهم ابتداء دخلوا ليبيا بشكل غير قانوني، مما يجعلهم بعيدين عن الأطر والإجراءات الحاكمة التي تقيد حركتهم، وهو ما يرتب تداعيات خطيرة على السكان. والأمر الآخر هو احتمالية انخراط البعض منهم في ميليشيات مسلحة و”إرهابية”، وهو بعد آخر شديد الأهمية، يتعدى تأثيره دائرة الجريمة المنظمة إلى قضايا النزاعات والصراعات السياسية وقضايا الإرهاب.

أما من الناحية الاقتصادية، فقد فرض الموقع الجغرافي لليبيا ، والواقع بين منطقتين متعارضتين من حيث الموارد والإمكانيات الاقتصادية، أن تكون منطقة عبور ومقصد في آن واحد، مما أثر سلباً على الاقتصاد الليبي. وقد كانت أعداد المهاجرين قبل هذا القرار من الأساس تثقل كاهل الدولة الليبية، من حيث الميزانيات المرصودة لملاحقة المهاجرين والقبض عليهم وإيوائهم وترحيلهم. لذلك، فإنه من المرجح أن تتضاعف المسؤوليات والأعباء الاقتصادية جراء هذا القرار على الدولة الليبية.

ومن الناحية الديموغرافية والأمن الاجتماعي، تشير بعض المصادر الإحصائية إلى أن نحو 74٪ من المهاجرين في ليبيا بالفعل خارج مراكز الاحتجاز، وينتشرون بشكل عشوائي في أنحاء البلاد، وغالباً لن يكون أمام هؤلاء، وهم يبحثون عن الرزق، سوى خيارات ثلاثة، إما الانخراط في سوق العمل الليبي خارج المظلة القانونية، أو استغلالهم من قبل جماعات السطو والتهريب والإتجار بالممنوعات، أو الالتحاق بصفوف الميليشيات المسلحة أو التنظيمات المتطرفة العابرة للحدود، والتي تنتشر عبر دول الساحل والصحراء. وكذلك يلاحظ تأثير الهجرة الغير شرعية في خلخلة الترابط المجتمعي، وإحياء النعرة القبلية والعرقية داخلياً، باعتبار الامتدادات والروابط التاريخية لبعض المكونات الاجتماعية.

الخلاصة

لقد ساهم التنافس الدولي على مناطق الساحل والصحراء في جعل الدولة الليبية ساحة صراع، تسعى القوى الدولية لبسط النفوذ والسيطرة عليها؛ سواء لما تحتويه ليبيا من موارد، كالنفط والذهب، أو لمركزية الدولة الليبية بموقعها الجيوسياسي في التعاطي مع ملف الهجرة الغير شرعية، سواء لاحتواء هذه الظاهرة من قبل القوى الأوروبية، أو استخدامها كورقة ضغط من قبل الروس في مواجهة خصومهم الأوروبيين.

لذلك، فإن قرار النيجر إلغاء قانون مكافحة الهجرة الغير شرعية لا يعكس أزمة داخلية فقط تمر بها النيجر، بل هي أيضا أزمة إقليمية، قد ترسم المعالم الجديدة لمستقبل السياسات الدولية في منطقة الساحل الأفريقي. وهذه المعالم ستحددها نتائج إدارة أزمة النيجر، وانعكاساتها على جيرانها في المنطقة، وبالأخص الدولة الليبية.

التوصيات

في ضوء هذا القرار وتداعياته، هناك عدد من التوصيات المقترحة لصناع القرار في الدولة الليبية، كالتالي:
• ضرورة أن تعمل حكومة الوحدة الوطنية والحكومة الموازية على اتخاذ إجراءات سريعة، تتمثل في التواصل مع السلطات النيجرية، لفهم أسباب هذا القرار، وشرح تداعياته على الأمن القومي الليبي، والتحذير من خطورة نتائجه على المنطقة.• يجب أن تعمل الدولة الليبية على مكافحة الهجرة الغير شرعية بشكل صارم، في إطار الاحترام الشديد لحقوق الانسان، إلى جانب تكثيف التعاون الدولي والإقليمي والمحلي، وتشارك المسؤولية بين دول المنشأ ودول العبور ودول المقصد. ومن المفترض أن يحفز هذا القرار السلطات الليبية على مراجعة كل خططها وسياساتها التي وضعتها طيلة السنوات العشر الأخيرة، فيما يتعلق بالتعاطي مع ملف الهجرة، وبيان وتقييم نتائج تلك السياسات وفاعليتها على الأرض.
• ضرورة تكوين قاعدة بيانات خاصة بإحصاءات الهجرة الغير شرعية، من خلال المؤسسات المعنية، ومراعاة تحديثها سنوياً، لمراقبة تلك الظاهرة، حتى يتسنى للمسؤولين وصناع القرار معالجتها في ضوء بيانات حقيقية.
• ضرورة إعادة النظر في سياسات الصد ضد المهاجرين الغير شرعيين على الحدود الليبية وفي أعالي البحار، وتحميل المجتمع الدولي مسؤولياته بجانب ليبيا، وتقديم الدعم اللوجيستي الممكن للأجهزة المعنية للقيام بعملها، وفق منهجية وآلية وطنية في تجفيف منابع التسلل والتهريب، من خلال تفعيل تقنيات حديثة في مراقبة الحدود.
• ضرورة محاربة عصابات الاتجار بالبشر التي تعمل في ظل عدم الاستقرار الأمني، على أن تكون مواجهة تلك العصابات بتكاتف الجهود بين الأجهزة الأمنية، وضرورة العمل على توحيد مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والجهات المشرفة على هذا الملف، وضرورة سرعة إنجاز ذلك.
• الانتباه إلى حاجة الدول الأوروبية لمعالجة هذا الملف، ورغبتها في تعزيز وتكثيف دعمها للدولة الليبية من أجل احتواء نتائج قرار النيجر، على مستوى أعداد الراغبين في الهجرة إلى أوروبا. وكما هو معلوم، فإن الاتحاد الأوروبي دائما ما كان يقترح إنشاء مراكز لتوطين وإدماج المهاجرين مع السكان المحللين، بغية منعهم من التطلع إلى السواحل الأوروبية، ولو كان ذلك على حساب الأمن القومي الليبي.
• الانتباه لأهمية المناطق الحدودية، ودورها الحيوي الذي تؤديه لصالح الدولة الليبية، وما تحتمه على الدولة من وضع الخطط والاستراتيجيات اللازمة للتعامل مع هذه المناطق شديدة الحساسية، كمنطقة الكفرة المحاذية لثلاث دول، تشاد والسودان ومصر، ومدينة غات في المنطقة القريبة من مثلث السلفادور، الذي يربط الدولة الليبية بالجزائر والنيجر، ومدينة القطرون وما حولها من القرى والمناطق، وارتباطها بالدولة التشادية.
• ضرورة العمل على إيجاد إطار يجمع ما بين الجنوب الغربي والجنوب الشرقي، تتبلور منه فعاليات وبرامج عمل حقيقية تخدم فكرة استقرار وأمن الجنوب. وضرورة تنمية المناطق الحدودية والسعي لأحداث تغيير حقيقي في المستوى المعيشي، تؤسس إلى حصول هجرة عكسية من الشمال للجنوب، وتخلق ارتباط حقيقي بين الشمال والجنوب، يخدم المصلحة والوحدة الوطنية، ليواجه المجتمع الليبي كله خطط وسياسات الدول الأوروبية الساعية لإحداث تغيير ديموغرافي حقيقي في تركيبة الشعب الليبي. وكذلك ضرورة أن تقدم مجالس الخبرة في الدولة الأفكار والمقترحات، لتغطية الفراغات الحاصلة في المساحات الشاسعة في المنطقة الجنوبية.
• التواصل مع الاتحاد الأوروبي، والوقوف على برامجه وخططه للتعامل مع ملف الهجرة الغير شرعية، خاصةً تلك التي تؤدي إلى الإضرار بالأمن القومي الليبي. وتحديد حسابات الربح والخسارة للدولة الليبية من سياسات الدول الكبرى المتنافسة في أفريقيا، ثم تقدير الأولويات والسياسات بناء على ذلك.
• التحذير من خطورة التسويق لمشاريع الانفصال ومالاتها السلبية أمر وجب الانتباه إليه، خصوصاً مع تخطيط بعض القوى الدولية لجعل ليبيا وعاء وبيئة تصلح لإدماج المهاجرين الغير شرعيين. وكذلك العمل على ملف المصالحة الداخلية بين جميع مكونات وسكان الجنوب، عبر آليات عمل ونهج جديد.
• الشروع في بناء مدينة أو أكثر على الحدود الليبية التشادية، أو بمقربة منها، تؤدي أدواراً متقدمة للدولة، وتسهم في إيجاد حل جذري لقضية الفراغ الحدودي، واستمرار التدفق البشري على الجنوب الليبي. خصوصاً وأن المناطق الحدودية، بما تملكه من موارد، أصبحت مناطق جذب حقيقي واستثمارية لأصحاب الأموال. لذلك، على الدولة أن تعمل على إيجاد لوائح وقوانين تنظم عمليات الاستثمار فيها، وتسهم في استتباب وتحقيق الأمن.

يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)

زر الذهاب إلى الأعلى