دوافع تشكيل الاتحاد الكونفدرالي الجديد في الساحل الأفريقي وتداعياته على الدولة الليبية
قـــرآءة تفصيليـــة
المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية
كان الكثير من المراقبين يرون فيما حدث في مالي وبوركينا فاسو من انقلابات بأنها تأتي في سياق واحد، وأن الأمر معني بتغيرات وتحولات جيوسياسية مدفوعة من قوى دولية باتت تعصف بالمنطقة. ولقد كان لتسارع دولة النيجر في الالتحاق بحالة التغيير وانخراطه في نفس الموجة، تعبيراً عن مدى انعكاس التحولات الجيوسياسية الدولية على القارة الإفريقية، وعمق تأثيرها على دول الساحل الأفريقي.
ويأتي الإعلان عن تجمع اقليمي جديد يضم الدول الثلاث مالي وبوركينا فاسو والنيجر، في 6 يوليو 2024، والذي أطلق عليه (AES)، ليكون التحول الجيوسياسي الأبرز في خارطة دول الساحل الأفريقي، والذي كانت تخشى دول تكتل غرب أفريقيا الاقتصادية (إكواس) من حدوثه، خصوصاً بعد خروج هذه الدول الثلاثة منه في يناير الماضي، بعد عدة أشهر من فرض التجمع لعقوبات على النيجر، واتهام هذه الدول المنظمة بأنها أداة تحركها باريس.
إن التحولات الجيوسياسية الدولية الكبيرة باتت تنعكس بشكل مباشر على الجغرافيا السياسية للقارة الأفريقية، والتي تصارع فيه روسيا إلى جنب الصين بقوة من أجل كسب أرضية لنفوذ حقيقي يعكس الشراكة الاستراتيجية بينهما، ولتمكين حلفاء روسيا مثل الهند وإيران وتركيا من التوسع في الاستثمار في القارة الغنية، بغرض سحب البساط من تحت أقدام فرنسا والدول الغربية، في احتكار القارة لعقود طويلة. ويبدو أن روسيا وحلفاؤها جادون في رعاية وإنجاح تفاهمات وخطوات القادة الجدد.
ليبيا والاتحاد الكونفدرالي.. موقف الشرق والغرب
لم يكن مفاجئاً ما تبذله روسيا من محاولة لتعزيز التعاون بين حلفائها في أفريقيا لتكريس نفوذها، والحد من الضغوط الغربية على دول المنطقة التي استطاعت أن تتجاوز موضوع الهيمنة والتبعية التقليديةّ. وفي هذا السياق، جاءت زيارة “صدام حفتر” إلى عاصمة بوركينا فاسو “واجادوجو”، وبشكل سريع، بعد أربعة أيام من الإعلان الكونفدرالي، في 10 يوليو الماضي، لبحث فرص تعزيز التعاون مع التحالف الجديد لدول الساحل الواقعة تحت النفوذ الروسي، وهو استكمال لجهود روسيا الساعية إلى تكريس نفوذها في القارة الأفريقية، التي ترسم فيه تصوراً لمخطط جيوسياسي يكون على شكل حرف T مقلوب، قاعدته دول الساحل الأفريقي شرقاً إلى الساحل الأفريقي غرباً، ورأس الحرف في ساحل البحر المتوسط المطل على جنوب أوروبا
إن سرعة الزيارة التي قام بها صدام إلى بوركينا فاسو هي فهم متقدم وخطوة استباقية لتدعيم مركز قوته بما يخدم مشروعه الساعي إلى حكم ليبيا. خاصة بالنظر لحقيقة أن ما يحكم معظم دول الساحل قادة شباب من سن صدام، ووصلوا جميعهم عبر انقلابات عسكرية، ويبدو أن ليدهم طموح عالي بحكم دول المنطقة للعقود المقبلة.
وهكذا، فإن الزيارة هي امتداد للزيارة التي قام بها صدام إلى تشاد قبل مدة وجيزة، والتقى فيها بالجنرال الشاب الحاكم في تشاد “محمد ديبي”، واستعراضا خلالها أوضاع المنطقة وفتح آفاق تعاون يخدم الجارين. كما أن هذه الزيارات قد تُقرأ في سياق تحضير حفتر ابنه لخلافته في السعي لحكم ليبيا، بتوسيع وتشبيك قاعدة العلاقات الإقليمية لابنه، بالأخص بالقيادات الشبابية التي التي صارت تحكم بعض دول الساحل الأفريقي.
الخلاصة
في ضوء هذه التطورات المتلاحقة في منطقة الساحل الأفريقي، من المهم جداً أن يضطلع المسؤولون في الدولة الليبية بواجباتهم، وإدراك أن منطقة الساحل باتت تحتل موقعا جيواستراتيجياً حيوياً في قارة أفريقيا، وأن من شأن الاتحاد الكونفدرالي الجديد أن يشكل واقعاً جديداً يعاد فيه خلط الأوراق وموازين القوى على النطاق الإقليمي والدولي. بالتالي، على الدولة الليبية أن تسعى إلى المسارعة في معالجة ظروف الانقسام السياسي، وتوحيد الجهود السياسية والدبلوماسية للتعامل مع الاتحاد الجديد بطريقة تتجاوز الحسابات الضيقة والمصالح الخاصة التي يعني استمرارها في ظل هذه الأوضاع مؤشراً غير صحي، قد لا يخدم فكرة استمرار تماسك الدولة الليبية.
إن تنافس الفرقاء السياسيين الليبيين للتواصل مع قادة الإتحاد الجديد على قاعدة المعارك الصفرية هو تضييع للفرص التي يمكن أن تجنيها الدولة الليبية في إعادة إحياء حضورها الأفريقي الفاعل، واستهتار بالتحديات والتهديدات التي تعصف بالمنطقة وتؤثر بشكل أو بآخر على الدولة الليبية.
فعلى سبيل المثال، إن من شأن توظيف ملف الهجرة الغير شرعية من قبل روسيا ودول الاتحاد الكونفدرالي في صراعها مع أوروبا أن يغرق ليبيا بالمهاجرين الغير شرعيين، ويعرضها إلى كوارث كبيرة أمنية واقتصادية وديموغرافية.
فمن الأسباب الرئيسية للهجرة، ليست فقط الفقر وانعدام الفرص، إنما على نحو متزايد، تأثير النزاعات والأوضاع الغير مستقرة واستغلال الأزمات التي تدفع إلى زيادة كبيرة في أعداد الراغبين في الهجرة. وبالتالي فإن التعامل الأوروبي مع التحولات الجيوسياسية في المنطقة، وخصوصاً بعد إعلان الاتحاد الكونفدرالي، سوف يكون له تأثير مباشر على تحريك ملف الهجرة، وهو ما سينعكس على مصير الدولة الليبية، حيث كانت السلطات الليبية تخشى بعد الانقلاب الأخير في النيجر من تحول 18 مليون نسمة تعيش تحت خط الفقر بالنيجر إلى منطقة الجنوب الليبي، خصوصاً مع حالة الفوضى في دولة السودان والتي تمر بـ حرباً داخلية شرسة، إضافة إلى وجود قلق حقيقي من امتداد سلسلة الانقلابات إلى دولة تشاد، وكل هذه الدول الجنوبية محاذية للأراضي الليبية.
أخيراً، إن أي تدهور واضطراب أمني أو سياسي في منطقة الساحل الأفريقي ستكون نتائجه خطيرة على الأمن القومي الليبي، وهو ما يستوجب أقصى معدلات الحذر والاستعداد من الدولة الليبية على كل المستويات.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)