أوراق بحثيةمنتدي ليبيا

التنظيم القانوني للمصالحة الوطنية في ليبيا

التصنيف : ورقة بحثية
اعداد : د . عبدالمنعم مفتاح الشوماني
وحدة الدراسات والأبحاث بالمركز

ملخص :
العدالة الانتقالية والوصول لمصالحة اجتماعية في البلدان التي خاضت حروباً أهلية هي التحدي الأكبر الذي يواجه هذه المجتمعات لتحقيق أمنها القومي القائم على أسس حقيقية. وقد نجحت بعض المجتمعات في تحقيق عدالة انتقالية عبرت بها إلى بناء أُسس جديدة للمجتمع تضمن جبر الضرر للضحايا، وعدم العودة للنزاع المسلح مرة أخرى. والسلام الذي حققته هذه الدول مر بعدة مراحل، ولعل أهمها مرحلة البناء القانوني وسن التشريعات الوطنية لمرحلة العدالة الانتقالية.
وقد اعتمدت هذه الورقة المنهج الاستقرائي لتتبع مسارات تجارب الدول، ودور التشريعات في بناء المؤسسات التي تُدير مرحلة العدالة الانتقالية، وخطوات تحقيق المصالحة الوطنية. وفي الحالة الليبية، ورغم مرور عقد كامل على النزاعات الأهلية منذ ثورة فبراير 2011 لم يتم التوصل لمصالحة اجتماعية في ليبيا، رغم عديد الدعوات وصدور قانون لإرساء قواعد المصالحة الاجتماعية. وقد توصلت الورقة لعدة نتائج حالت دون الوصول لتحقيق العدالة الانتقالية في ليبيا، وهي: قصور قانون إرساء قواعد المصالحة الاجتماعية في بناء مؤسسات تضمن كشف الحقيقة وجبر الضرر وتحقيق المصالحة الاجتماعية، وعدم إيلاء المؤسسات التشريعية في ليبيا أهمية لسن التشريعات المنظمة للعدالة الانتقالية. وقد خلص البحث إلى أن تشريعات العدالة الانتقالية في ليبيا تحتاج لإعادة صياغة حتى يتم بناء مؤسسات العدالة الانتقالية القادرة على تحقيق المصالحة الاجتماعية.
كلمات مفتاحية: العدالة الانتقالية، جبر الضرر، المصالحة الاجتماعية.
المقدمة :
تتناول الورقة العدالة الانتقالية والمصالحة الاجتماعية نظراً لأهميتها الكبرى في تحقيق السلم الوطني بعد مراحل متتابعة من النزاعات المسلحة. وفي هذه الورقة، تم تقديم تعريف مبسط وشامل عن العدالة الانتقالية والإفلات من العقاب والمصالحة الوطنية، ثم الحديث بإسهاب عن هذه المصطلحات وأهميتها في تحقيق السلم الاجتماعي؛ فلا وجود للأمن القومي إلا بمصالحة وطنية شاملة وحقيقية، تؤدي إلي الاستقرار علي مستوي المجتمع والأسرة والمواطن علي حد سواء. وبعد ذلك، تناولت الورقة التجربة الرواندية في الوصول إلى المصالحة الوطنية، ودور التشريعات في بناء مؤسسات العدالة الانتقالية، تلاها استعراض التشريعات الليبية المتعلقة بالعدالة الانتقالية، مع تبيان مواطن القصور فيها، وما تحتاجه من إعادة صياغة حتى تحقق الغاية المنشودة منها.
المبحث الأول
مفهوم العدالة الانتقالية والإفلات من العقاب
يتردد كثيراً مصطلح العدالة الانتقالية مقروناً بمصطلح الإفلات من العقاب، ويستعرض هذا المبحث المصطلحين، وبدايات ظهورهما واستخدامهما في سياق المصالحات الوطنية، وتعريف منظمة الأمم المتحدة لهما.

المطلب الأول
الإفلات من العقاب
تعددت تعريفات الباحثين في هذا الشأن، وحتى المؤسسات والمنظمات الدولية المهتمة المعنية بموضوع الإفلات من العقاب. وقد عرفته المادة (18) من مشروع “مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية حقوق الإنسان وتعزيزها من خلال العمل على مكافحة الإفلات من العقاب” بأنه: عدم قيام الدول بالوفاء بالتزاماتها تجاه التحقيق في الانتهاكات، واتخاذ التدابير المناسبة فيما يتعلق بالجناة لا سيما في مجال القضاء من خلال ضمان أن تتم محاكمتهم، واتخاذ خطوات لمنع تكرار مثل هذه الانتهاكات . وهذا التعريف يحمل الدول المسؤولية التامة في عمليات التحقيق في الانتهاكات التي تحصل فيها، وعدم قيامها بجلب المتهمين لساحات القضاء، ويقرن مساءلة انتهاكات حقوق الإنسان بجلب منتهكيها لساحات العدالة. ولكن هذا التعريف جاء مقتضباً، فلم يتحدث عن أنواع الإفلات من العقاب، ولا عن موقف الكيانات المسلحة من الإفلات من العقاب. ويعرفه “عمر سعد الله” بأنه “عدم تسليم الحكومة المعنية، لمواطنيها أو رعاياها المتهمين بارتكاب الإبادة الجماعية، أو الجرائم ضد الإنسانية إلى المحكمة الجنائية الدولية متى ما طلبت المحكمة احضارهم” ، وهذا التعريف جعل الإفلات من العقاب خاصة بالمحكمة الجنائية فقط، ولم يتطرق لمساءلة الإفلات من القضاء المحلي، والذي هو الأساس.
وتعرفه “ندى يوسف” بأنه “هي كل الإجراءات والممارسات التي من خلالها تتسبب الدول أو أي جهة في تضييع التزام التحقيق، ومحاكمة ومعاقبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، أو التسبب في منع الضحايا أو ذويهم من معرفة الحقيقة والتي هي جزء من جبر الضرر” . ومن مجمل هذه التعريفات، يمكن أن تلخيص أهم ما ركزت عليه في تعريفها المختلف للإفلات من العقاب على النحو التالي: أنها أجمعت على عدم التمكن من تتبع مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان، وكما خلصت إلى أن المحاكم والقضاء هما الوسيلة لإنزال الردع الفردي والجماعي، بالإضافة إلى الحق في معرفة الحقيقة والذي هو عنصر مهم في جبر الضرر.
ويقدم الباحث تعريفاً لمصطلح الإفلات من العقاب على النحو التالي “هو كل فعل إيجابي، أو سلبي، من شأنه التسبب في عدم جلب متهمين في جرائم دولية أو محلية تنتهك حقوق الإنسان، ومنع الضحايا أو ذويهم، أو تضليل الرأي العام من أجل عدم معرفة حقيقة ما حدث” . إذ أن جريمة الإفلات من العقاب لها أطراف مساعدة، وهي كما جاءت في التعريف الأخير قد تكون في شكل فعل مساعد على الهروب من العدالة، أو في شكل عدم اتخاذ فعل، أي عدم القيام بضبط المتهمين وتسليمهم للعدالة المحلية أو الدولية، وهو ما يتسبب في إفلات العديد من المتهمين بارتكاب مجازر وانتهاكات لحقوق الإنسان من العدالة.

المطلب الثاني
العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية هي مجموعة من العمليات والآليات المتعاقبة، ويكون فيها شق قضائي، بالإضافة إلى الكثير من العمليات الأخرى، والغاية منها هو تقليص الاحتقان المجتمعي، وتخفيف معاناة المتضررين من خلال كشف الحقيقة، وهي الطريق الذي سلكته عدة شعوب للعبور من مرحلة الاستبداد والقمع إلى مرحلة السلم الاجتماعي . وتغطي العدالة الانتقالية المجموعة الكاملة للعمليات والآليات المرتبطة بمحاولة المجتمع التصالح مع إرث متفشٍّ على نطاق واسع خلّفه نزاع ماضٍ أو قمع أو انتهاكات أو تجاوزات، بهدف ضمان المساءلة وتحقيق العدالة والمصالحة، وقد تشمل هذه العمليات كلاً من الآليات القضائية وغير القضائية، بما في ذلك تقصي الحقائق ومبادرات الملاحقات القضائية والتعويضات والتدابير المختلفة لمنع تكرار الانتهاكات من جديد، بما في ذلك الإصلاح الدستوري والقانوني والمؤسسي، وتقوية المجتمع المدني، والجهود الرامية إلى تخليد الذكرى، والمبادرات الثقافية، وصون المحفوظات، وإصلاح تعليم التاريخ. وتهدف العدالة الانتقالية إلى الاعتراف بالضحايا، وتعزيز ثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون، كخطوة نحو المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة. ويعود ظهور مفهوم العدالة الانتقالية إلى مراحل مختلفة، أسهم كل سياق تاريخي خلالها في صياغة المفهوم لتصبح حقلا مستقلا بذاته، ويشار للعدالة الانتقالية أيضاً بأنها ” آلية إحلال السلام والعدالة في أوقات ما بعد الصراع “.
أولاً: المراحل التاريخية لتطور المفهوم
تنقسم المراحل التاريخية لتطور مفهوم العدالة الإنتقالية إلى ثلاث مراحل رئيسة:
المرحلة الأولى: يعتبر الكثير من الباحثين مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية هي المرحلة الأولى لتشكل المفهوم، وذلك من خلال محاكم نورمبورغ Nuremberg، وطوكيو Tokyo؛ والتي تمثل إنجازها في الاعتراف بالجرائم ضد الإنسانية، في شكل يؤسس لعدالة بعيدة عن الانتقام. ورغم كل الملاحظات التي طالت محاكم ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنه كان لها دور بارز في تطوير الجنائية الدولية؛ إذ تمكنت من تعزيز مفهوم الوعي الحقوقي على المستوى الدولي، عبر تأسيسها للبنية القانونية والتنظيمية لفكرة حقوق الإنسان.
المرحلة الثانية: ارتبطت هذه المرحلة بتطوير مفهوم العدالة الانتقالية بتسارع مرحلة الديمقراطية Democratization، والتحول السياسي الذي مرت به الكثير من الدول خلال الحرب الباردة، وحتى نهاية الثمانينيات، والتي شهدت حالات صراع داخلي، وجرائم ضد الإنسانية متأثرة بالصراع الدولي. وتميزت هذه المرحلة بظهور لجان الحقيقة، فكان أول إنشاء لها في أوغندا عام 1974 تحت اسم لجنة التحقيق في الاختفاء القسري، ثم في بوليفيا سنة 1982، وكذلك في الأرجنتين سنة 1983 للتحقيق في مصير ضحايا الاختفاء القسري إبان الحكم العسكري بين 1976 و1983.
المرحلة الثالثة: تُعد مرحلة تشكل مفهوم العدالة الانتقالية بعد نهاية الحرب الباردة؛ إذ شاع استخدام المصطلح بين عدد من الأكاديميين الأمريكيين، لوصف الطرق المختلفة التي عالجت بها البلدان مشاكل وصول أنظمة جديدة إلى السلطة، ومواجهتها للانتهاكات الجسيمة للحكومات السابقة. وفي هذه المرحلة أضحى مفهوم العدالة الانتقالية أكثر استقرارًا، وأصبحت أهداف المفهوم ووسائله ونهجه أوسع، فتضمن دور العدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد الصراع تنظيم العلاقات وقت السلم، ويمكن اعتبار هذه المرحلة مرحلة التبلور لمفهوم العدالة الانتقالية ، إذ أخذت العدالة طابعاً شاملا لجميع القطاعات التي تؤثر على النسق المجتمعي بعد انتهاء الصراع.
وقد عرفت الأمم المتحدة العدالة الانتقالية بأنها “مجموعة كاملة من العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق، بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة، وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء”، مع تفاوت المشاركة الدولية أو عدم وجودها مطلقاً.
ثانياً: خصائص العدالة الانتقالية
توجد ثلاث خصائص تميز العدالة الانتقالية، وهي:
التركيز على الشمولية في التعامل مع ما خلفته انتهاكات حقوق الإنسان، فأهداف وأدوات العدالة الانتقالية تتجاوز المحاسبة المعروفة على انتهاكات حقوق الإنسان من خلال المحاكمات، فتعمل أيضًا على جبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تكرار الانتهاكات وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتعزيز السلم والديمقراطية.
الأولوية التي يحظى بها التوازن والإدماج، فهي تسعى إلى عدالة بأثر رجعي بأي ثمن، ولا تركز على محافظة السلام على حساب حق الضحايا في العدالة، بل تركز عوضا عن ذلك على إرساء توازن بين الأهداف على اختلافها وتنافسها.
• الاعتماد على منهج يرتكز على الضحايا للتعامل مع ماضي عنيف، ويكون رد الاعتبار لها أبرز أهدافها.
ثالثاً: أهداف العدالة الانتقالية
من الأهداف الأساسية للعدالة الانتقاليّة:
• تحقيق المُصالحة الوطنيّة والسلم المجتمعي، حيث إنه من بعد الانتهاكات الكبيرة في حقوق الإنسان سيفقد المجتمع الثّقة بحكم القانون، والآليات التقليدية للعدالة، وغالبًا ما يظهر ذلك في الدول التي عَانت من حُروبٍ ونزاعات أهليّة، إذ تتشكّل لديها دوافع قوية للانتقام، ممّا سينتج عنه عنف متبادل.
• إصلاح مؤسّسات الدّولة، وفي مقدّمتها مؤسّسات الجيش والأمن، والمؤسّسات جميعها التي تورّطت في ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، أو التي لم تحاول منع ارتكابها، ومن هنا قد تتوصل الدولة لمنع تكرارها مستقبلاً.
رابعاً: آليات العدالة الانتقالية
• المحاكمات: إن للدولة التزام بالتحقيق في الجرائم، وذلك وفقًا لقانون المعاهدات الدولية والقانون العرفي، حتى وإن كانت هذه الجرائم ارتكبت في ظل النظام السابق أو أن مرتكبها هو النظام السابق ذاته، وكل ذلك منصوص عليه في المادة الرابعة للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. والمحاكمات هي التي تؤدي إلى التحول المعياري من حكم غير شرعي إلى حكم شرعي، وتؤدي إلى التحول إلى نظام سياسي أكثر ليبرالية. وكما أن للمحاكمات أهمية من الناحية الجزائية، فهي تقوم بفرض العقاب وتصحيح الأوضاع، ومن ناحية أخرى تمنع عدم ظهور أي محاولة لانتهاك حقوق الإنسان في المستقبل؛ إذ إن إعفاء الأفراد من العقاب وعدم خضوعهم للمحاسبة أو فرض أي عقوبات عليهم يؤدي إلى انعدام حقوق الإنسان، فالإفلات من العقاب هو نقيض سيادة القانون.
إن عدم القدرة على ردع انتهاكات حقوق الإنسان لا يؤثر فقط على الضحايا المباشرين، بل إن تداعياته تمتد أيضًا إلى التأثير على العملية الديمقراطية وإرساء سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان، فعندما تحرض الشرطة على القتل أو تيسره دون أن تتعرض لأي عقوبة فهي بذلك تكون مشاركة في الجريمة، كما إن ضعف ردع منتهكي حقوق الإنسان تمتد آثاره لتشمل المجتمع كله، وبالتالي تضر بالأمن القومي للبلد. فالمحاكمات تقوم بتقييد مرتكبي الانتهاكات المعروفين مما يؤدي إلى إعادة إصلاحهم وتأهيلهم، وبذلك فهي تطهر المجتمع من القادة الخطرين وتقوم بردع مجرمي الحرب في المستقبل. وتعد المحاكمات مفيدة لبناء السلام وإقرار الحقيقة بشأن أحداث الماضي، وتتم من خلال المحاكم الوطنية، والمحاكم الدولية، والمحاكم المختلطة، والمحكمة الجنائية الدولية.
• لجان تقصي الحقيقة: تركز هذه اللجان على الماضي، لا على واقعة بعينها، فتحاول رسم صورة كاملة لانتهاكات حقوق الإنسان أو القانون الدولي الإنساني خلال فترة زمنية محددة. ولا توجد هذه اللجان بصورة دائمة وإنما لفترة مؤقتة، وتنتهي بمجرد تقديمها تقرير نتائج عملها. ويتاح لها قدر من السلطة حتى تتمكن من الوصول لأكبر قدر من المعلومات، بالإضافة إلى الأمن حتى تتمكن من دراسة القضايا الحساسه، لذلك تعد ذات أهمية كبيرة وعادة ما تتشكل في لحظة الانتقال السياسي في بلد ما.
• تعويض الضحايا (جبر الضرر): الهدف الأساسي للتعويض هو إعطاء العدالة للضحايا، وتعني الاعتراف بالضحية ورد كرامته وإعادة الثقة بين المواطنين بعضهم البعض من ناحية وبين المواطنين والدولة من ناحية أخرى. ومبدأ التعويضات أصبح ملزمًا وفقًا للقانون الدولي، وبالرغم من اختلاف التزامات كل دولة في تفاصيلها الدقيقة، تبعًا لاختلاف المواثيق الموقعة عليها، فهي ملزمة ( التعويضات) في مواجهة الدول جميعاً. وتأخذ التعويضات عدة طرق، منها التعويض المباشر، أو رد الاعتبار، أو الاسترجاع. وعند النظر إلى نوعها فإنها تنقسم إلى مادية ومعنوية، بينما من ناحية الفئة المستهدفة فقد تكون فردية أو جماعية. والتعويض المادي يتم عن طريق منح أموال وحوافز أو تقديم خدمات مجانية كالتعليم والصحة والإسكان، فيما المعنوي يتم عن طريق اعتذار رسمي أو إعلان يوم وطني للذكرى.
• إصلاح المؤسسات: يأتي عندما ينتهي الحكم الاستبدادي، أو عندما ينتهي الصراع، حيث تعمل المؤسسات الكبرى على مساندة الحكم السلطوي أو الشمولي في الصراع، وتكون محتفظة بعلاقتها مع الزعماء السابقين سعيًا وراء مصالحها الشخصية، فتقاوم أي محاولة لتغيير الوضع الراهن، فتتعطل البنية الأساسية، بما يؤدي إلى عدم ثقة المواطنين في هذه المؤسسات. لذلك يجب إصلاح هذه المؤسسات حتى يتم نشر السلام وتحقيق الديمقراطية والقضاء نهائيًا على الحكم الشمولي، وتصبح المؤسسات خادمة للمواطنين بدلًا من أن تكون قامعة للأفراد، فتخدمهم بنزاهة وتحمي حقوق الإنسان.
• آليات إحياء الذكرى: تعد ذات أهمية كبيرة في تحقيق العدالة الانتقالية، لوجود ارتباط كبير بينها وبين عملية التصالح مع الماضي، حيث تجاوز الأضرار التي مر بها الأفراد في فترات الحروب والنزاع. وتهدف إلى تعريف الناس بماضي ضحايا انتهاك حقوق الإنسان، وذلك لتوعيتهم من خلال تلك الآلية. ويتم إحياء الذكرى من خلال النصب التذكارية الموجودة في أغلب المجتمعات من تماثيل ولوحات تذكارية تخلد أبطال الحرب، أو متاحف وطنية تهتم بالتراث الثقافي، فتجسد تلك النصب نشاطات الحكومات والأشخاص في فترة تاريخية سابقة. هذا ويؤدي إحياء الذكرى إلى استدامة التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان

المبحث الثاني
دور التشريعات في تحقيق المصالحة الوطنية
يتناول هذا المبحث دور التشريعات الوطنية في تحقيق المصالحة الوطنية، وفي المطلب الأول تُناقش تجربة رواندا في هذا الصدد، أما المطلب الثاني فيناقش التجربة الليبية.
المطلب الأول
تجربة رواندا
أولاً: الإصلاحات الدستورية والقانونية في رواندا
كانت حكومة ما بعد 1994 مقتنعة بأن رواندا لا تمتلك دستوراً يتضمن القيم والمبادئ التي تؤسس لبناء مجتمع موحد، لذا كان من أولوياتها الوصول لبناء دستور يحمل قيم جديدة للمجتمع الرواندي يحترم تنوعه واختلافه، ويضمن تعايش أطيافه. وهذا ما تحقق بدستور 2003، والذي نصت المادة (11) منه على حظر أي شكل من أشكال الانقسام والتمييز بين الروانديين. ولضمان هذا التنوع والقيم الجديدة للمجتمع الرواندي، نص القانون على إنشاء مؤسسات مختلفة تتولى حل مشاكل الحرب الأهلية، وما ترتب عليها من وجود ضحايا ومغيبين، وغيرهم ممن أضر بهم النزاع المسلح في البلد. ومن أهم المؤسسات التي نص عليها الدستور الروندي الجديد ما يلي:
• محاكم غاشاشا المجتمعية.
• مجلس الحوار الوطني.
• مدرسة التأهيل الوطني.
• معسكرات التأهيل الوطني.
• مؤسسة العمل المجتمعي.
كما قامت الحكومة بإصلاحات قانونية، وساهمت في صياغة عدة قوانين لتحقيق المصالحة والعدالة الانتقالية، ولضمان منع عودة مثل هذه النزاعات عن طريق تجفيف منابع الكراهية والتمييز بين أطياف المجتمع. ومن أهم حزمة القوانين التي صدرت في مرحلة الإصلاحات القانونية ما يلي:
• قانون معاقبة التمييز والطائفية.
• العفو الرئاسي.
• قانون إلغاء عقوبة الإعدام.
• قانون الاعتراف وطلب العفو.
• قانون معاقبة إيديولوجية الإبادة الجماعية.
ولا شك أن تحقيق العدالة الانتقالية في بلد ما خاض حرباً أهلية ومزقته الصراعات الأيديولوجية أمر ليس بالسهل. وما يميز التجربة الرواندية هو تكامل مؤسساتها العاملة من أجل تحقيقها، فالعدالة الانتقالية في رواندا لم تكن مجرد مصالحة سياسية وتقاسم للنفوذ السياسي، وإنما بناء متكامل كان للدور القانوني جانب أساسي فيه. فكان تأسيس دستور يمثل قيم المجتمع الجديد أمراً مهماً وأساسياً، وبعده جاء دور القوانين الأساسية التي تضمن كشف الحقيقة، فالكشف عن الحقيقة هو راحة لأهل الضحايا، وغرس قناعة في وجدان المجتمع أن الحقيقة لا يمكن طمسها فهي سوف تظهر لا محالة، وأيضاً نظمت القوانين المحاكمات، وأشركت المجتمع عبر تأسيس المحاكمات المجتمعية وانتخاب قضاة من المجتمع.

ثانياً: المحكمة الجنائية الخاصة برواندا
كان مجلس الأمن يتابع الحرب الأهلية في رواندا، ويتلقى تقارير دورية من بعثة الأمم المتحدة. وبتاريخ 8 نوفمبر 1994، واستناداً إلى أحكام الفصل السابع من الميثاق، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 955 بإنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة الجنس البشري، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في رواندا. وقد نص النظام الأساسي لمحكمة رواندا على اختصاصها بالفصل في التهم المتعلقة بالإبادة الجماعية أثناء الحرب الأهلية برواندا، وقد شملت أحكام المحكمة أشخاصاً ارتكبوا أعمال عنف واغتصاب مثل عمدة مدينة (TABA) “جون بول أكاسيو”، وأشخاص اشتركوا بالتآمر والتحريض على ارتكاب جرائم الإبادة بالرغم من عملهم المدني مثل الوزير “جون كمبندا”، كما شملت أحكامها صحفيين ومذيعين شاركوا في التحريض على القتل وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية .
المطلب الثاني
تشريعات المصالحة والعدالة الانتقالية في ليبيا
وجد المجتمع الليبي نفسه في خضم ثورة بدايتها كانت مظاهرات سلمية، ثم انزلقت لحرب أهلية دامية شهدت تدخلاً دولياً، وحتى بعد إسقاط النظام شهدت البلاد عدة حروب دامية تعددت أسبابها، ولكن كان الرابط بينها أنها شهدت انتهاكات لحقوق الإنسان، واُستخدمت فيها وسائل التحريض المختلفة من قنوات مسموعة ومرئية ووسائل التواصل الاجتماعي. وبدلاً من تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، تكرست أغلب الجهود في عقد صفقات سياسية بعيدة عن أي مصالحة وطنية حقيقة وملاحقة المتورطين في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
ورغم أن أول قانون للمصالحة الوطنية صدر في العام 2012، وهو القانون رقم (17) لسنة 2012، بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، إلا أن بناء مؤسساتها لم يكتمل وظلت المصالحة مجرد حديث عابر وبعيدة المنال. ولمعرفة مكمن القصور في تحقيق المصالحة الوطنية سوف يتم استعراض مواد هذا القانون؛ للوصول لنتيجة من خلالها يمكن معرفة مواطن القصور في التجربة الليبية لتحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.
عرف القانون في المادة الأولى “العدالة الانتقالية” بأنها: “مجموعة من الإجراءات التشريعية والقضائية والإدارية والاجتماعية التي تعالج ما حدث خلال فترة النظام السابق في ليبيا، وما قامت به الدولة من انتهاكات لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، والعمل على إصلاح ذات البين بالطرق الودية بين بعض فئات المجتمع”. وما يلاحظ على هذا التعريف هو افتقاده للشمولية، فهو حسب هذا التعريف، معني فقط بما قامت به الدولة من انتهاكات لحقوق الإنسان، أي من جانب النظام فقط، وبالتالي هو غير معني بالانتهاكات التي حصلت من جهات ومنظمات غير رسمية، كالتي ارتكبتها الجماعات الإسلامية خلال التسعينيات مثلاً. وأيضاً حدد نطاقه الزمني خلال فترة النظام السابق، أي أن ما حدث بعد سقوط النظام خارج نطاق هذا القانون.
وفي المادة الثالثة منه، حصر القانون أهدافه في سبعة نقاط ليس من بينها “كشف الأشخاص المرتكبين للانتهاكات”، بل استبدل هذا الهدف “بتحديد مسؤوليات أجهزة الدولة عن انتهاكات حقوق الإنسان”، وهذا بُعد عن مفهوم العدالة الانتقالية وارتباطه بالإفلات من العقاب. ويبدو أن المشرع عند صياغته لهذا القانون كانت الفكرة الحاكمة في ذهنه هي التعويض المالي فقط كوسيلة لجبر الضرر، وهو لم يستعمل مصطلح “جبر الضرر”، بل استعمل بدلاً عنه “تعويض الضحايا والمتضررين”. وهو ربما كان يضع في ذهنه تكرار تجربة النظام السابق في المصالحة التي عقدها مع بعض السجناء سياسيين، والتي كانت تعويضاً مالياً، خاصة وأن رئيس المجلس الانتقالي المستشار “مصطفي عبدالجليل”، الذي أصدر هذا القانون كان يشغل منصب وزير العدل في النظام السابق، كما أن عدد من أعضاء المجلس الانتقالي كان ممن شملتهم المصالحة مع السجناء خلال حكم النظام السابق. ومن الواضح بُعد مصطلح “التعويض” عن جبر الضرر والذي يشمل كشف الحقيقة، بينما لا يتضمنها مصطلح التعويض المستعمل في القانون.
وفي الفصل الثاني، نص القانون على تشكيل لجنة تقصي الحقائق والمصالحة، ولم يرد ضمن اختصاصات اللجنة العمل على حث الجناة على الاعتراف وطلب الصفح من الضحايا، كما حدث في التجربة الرواندية وغيرها من التجارب. والقانون، لكونه جاء في سياق محاكمة نظام سابق أكثر من كونه قانوناً للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، لم يحقق أي نتائج عملية على الأرض، وظلت العدالة الانتقالية غاية بعيدة المنال؛ لأنه تم سلوك طريق خاطئ لا يقود لتحقيق هذه العدالة.
الخاتمة
أولاً: النتائج
خلصت الورقة بعدة نتائج تتعلق بقانون إرساء قواعد المصالحة والعدالة الاجتماعية، كالتالي:
• هو قانون لتعويض الضحايا مادياً وليس لصياغة مصالحة وطنية وعدالة اجتماعية.
• الجهات التشريعية الليبية لم تستكمل إصدار قوانين تكمل النقص في هذا القانون.
• القانون صيغ على عجل ولم يحظى بوقت كاف للدراسة والإعداد.
• جاء خالياً من آليات تحقيق المصالحة الاجتماعية.
• لم يولي موضوع الإفلات من العقاب أي أهمية.
• لم يولي موضوع كشف الحقيقة أي اهتمام.
• لم ترتبط أحكامه بمفهوم الأمن القومي.
• لم يتحدث عن جبر ضرر الضحايا.
ثانيا: التوصيات
كما خلصت الورقة لعدد من التوصيات، كالتالي:
• عقد مؤتمرات وندوات حول موضوع العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية واستعراض التجارب الدولية.
• عقد اجتماعات وفتح حوارات بين الجهات التشريعية والجامعات حول آليات الوصول للمصالحة الوطنية والعدالة الاجتماعية.
• إشراك كليات الشريعة والقانون والاجتماع في مشروع إعداد قانون للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يكشف الحقيقة، ويجبر ضرر الضحايا، ويحقق المصالحة الوطنية.
• ضرورة توضيح أهمية جبر الضرر وكشف الحقيقة، وأن المصالحة ليست تعويضاً مالياً فقط وطي ملفات الماضي.
• ضرورة التركيز على أن تحقيق المصالحة الوطنية مرتبط بالأمن القومي، ولا وجود للأمن القومي بدونها.
29 أكتوبر 2023

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
برزوق شباب، مقدمات في مفهوم الإفلات من العقاب، مجلة الدراسات الحقوقية، المجلد 7 العدد 1 مارس 2020.
جرود منال، مفهوم العدالة الانتقالية، الموسوعة السياسية، 2021.
ستاري عادل، المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، مجلة المفكر، العدد الثالث، 259.
عمر سعد الله، موسوعة القانون الدولي المعاصر، المجلد الأول، دار هومة للنشر والتوزيع، الجزائر 2014.
محمد فائق، العدالة الانتقالية طريق للمستقبل، المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ط1.
المفوضية السامية لحقوق الإنسان، https://www.ohchr.org/ar/transitional-justice.
يتوجي سامية، المسؤولية الجنائية عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر.

 

لتحميل الملف من هنا ….

زر الذهاب إلى الأعلى