انتخابات المجلس الأعلي للدولة
تمهيد :
مثلت انتخابات المجلس الأعلى للدولة نقطة فارقة في الوضع السياسي الليبي ، خصوصا إذا أحذنا بالإعتبار الدور الذي كان يلعبه رئيسه “خالد المشري ” لخمس سنوات متوالية ، بعد نجاحه في انتخابات رئاسة المجلس عام 2018.
و تجدر الإشارة إلي أن ، المسار السياسي الذي تبناه رئيس المجلس الأعلى للدولة “خالد المشري “، يعد مسارا فارقا عن سلفه ” عبد الرحمن السويحلي” أول رئيس للمجلس الأعلى للدولة – بعد اتفاق الصخيرات ، ومن قبله ” نوري أبو سهمين” رئيس المؤتمر الوطني العام الذي فقد موقعه بفعل اتفاق الصخيرات.
وبالرغم من المحطات السياسية العديدة التي طرأت على الساحة السياسية ، كالحرب على العاصمة واتفاق برلين وحوار جنيف واختيار حكومة الوحدة الوطنية ، فإن المشري استطاع في غالب هذه المراحل التعامل بالمرونة السياسية أحيانا ، والإنتهازية السياسية أحيانا أخرى التي تضمن فاعليته في المشهد ، إلا أن الصدام مع حكومة الوحدة الوطنية قد كلف “خالد المشري ” وجوده على سدة المجلس ، بالإضافة إلا مسارات التفرد التي أثارت حفيظة أعضاء المجلس وسخط شركاء سياسيين آخرين عليه.
انتخابات مجلس الدولة خلف الكواليس
تعد الانتخابات التي جرت في السابع من شهر أغسطس هذا العام ، انتخابات متأخرة عن موعدها بأربعة أشهر بناء علي إعادة التمديد الذي جرى في العام الماضي ، وهو ما يعني أن ولاية الرئاسة قد مددت أربعة أشهر عن ما تنص عليه اللائحة.
من الآخر ، فإن الانتخابات تأتي بمثابة الاستفتاء على المسار السياسي الذي تبناه رئيس المجلس الأعلى للدولة فيما يتعلق بتوحيد السلطة التنفيذية ، والعلاقة الثنائية مع ” عقيلة صالح ” والتي يمكن أن تصنف بأنها مسار مواز للمشهد السياسي الحالي فيما يتعلق بالعمل الحكومي والسلطة التنفيذية.
حكومة الوحدة الوطنية ، تعد الرابح الأبرز بخسارة المشري الذي مرر خارطة الطريق في اجتماع تشوبه شوائب قانونية متعلقة بالنصاب ، إلا أن خارطة الطريق قد صوت عليها ب34 صوتا لتكون بذلك ضمن أجندة المجلس الأعلى للدولة، و قد حوت هذه الخارطة مسار التصويت على إختيار حكومة موحدة بين مجلس النواب والأعلى للدولة ، والتي تعطي مجلس الدولة مساحة أساسية في اختيار وتزكية وتنقيح المرشحين وتمريرهم لمجلس النواب لإختيارهم بعد ذلك.
يعد هذا المسار ، مسارا مهددا لوجود حكومة الوحدة الوطنية ما اضطر الحكومة لأخذ موقف عدائي من المجلس الأعلى للدولة برمته ، إلي أن يمنع أعضاءه من السفر من مطار معيتيقة وهو حدث ليس بجديد على العلاقة بين الحكومة والمجلس ، إذ حوصر المجلس بآليات عسكرية قبل ذلك ، لمنع أعضاءه من عقد جلسة في فندق المهاري الشتاء الماضي.
ومن هذا المنطلق ، فإن العلاقة بين توجه المجلس الممثل في رئيسه ” خالد المشري ” وحكومة الوحدة الوطنية بلغ ذروة الحدة والتحدي بين الطرفين ، كما لجأت الحكومة لمنهج الترهيب والقوة والتضييق على المجلس بشكل واضح.
استطاعت الحكومة بشكل أو بآخر توجيه الظروف والأحداث قبيل الانتخابات لصالحها وذلك بدعمها “لمحمد تكالة” عضو المجلس الأعلى للدولة ليكون منافس ” خالد المشري ” .
استطاعت الحكومة وبضمانة تحييد خصم رئيسي لها في المشهد السياسي الليبي ، التنفس الصعداء ، برحيل ” خالد المشري ” عن رئاسة المجلس الأعلى للدولة ، كما أنها تنفست الصعداء قبل ذلك بإحالة ” فتحي باشاغا ” للتحقيق ، وتولي نائبه مهامه في رئاسة وزراء الحكومة المكلفة من قبل مجلس النواب.
تؤكد مصادر خاصة و مطلعة ، إن مندوبي الحكومة استمالوا أعضاء من المجلس الأعلى للدولة عن طريق وعود بتعيينهم في مجالس إدارة بعض الشركات والمراكز السيادية ، وسفارات بعض الدول في إفريقيا ، بالإضافة إلي شراء أصوات بقيم مالية وصلت إلي نصف مليون دينار ليبيا.
مسار عقيلة صالح خالد المشري يتهاوى
بهزيمة “خالد المشري ” وخسارته رئاسة المجلس الأعلى ، فإن مستوى الانسجام والتقارب بين رئاستي المجلسين ، قد تعرضت بما لا يدع مجالا للشك إلى خرق واضح ، ما يضع العلاقة بين المجلسين في المربع الأول ، وهو التنسيق الرسمي الجامد بعيدا عن التوافقات السياسية الرئيسية بين المشري وعقيلة صالح ، الذي تبعه صعود حكومة الوحدة الوطنية التي كانت خصم مشترك لرئاسة المجلسين اللتان سعيتا بعدة طرق لإسقاط الحكومة واستبداله بحكومة أخرى.
تأتي نتائج انتخابات المجلس الأعلى للدولة هادمة لمسار ” عقيلة +المشري ” الذي مر بمحطات عديدة كانت أولها الرباط وآخرها بوزنيقة مرورا بجنيف ، وهو مسار وإن ظهر أنه ملتوى في محطاته ومر بعدة منزلقات وتصدعات ، إلا أنه بصورة عامة كان طوعا لمشروع تمديد عمر المجلسين وتعطيل إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية ، وهو ما شهدت عليه قوانين لجنة ( 6+6 ) التي حوت في مضامينها ما يمكن أن يوصف بمواد تفجر للعملية الانتخابية من داخلها ، وتعقد إجراءها وهو ما تم بموافقة وإشراف رئيسي المجلسين.
وبالرغم من كون تكالة داعما لمسار حكومة ” فتحي باشاغا ” سابقا ، إلا أن شخصية “خالد المشري ” واندفاعه ومواقفه تجاه القضايا السياسية المختلفة ، نابعة من عوامل لا يمتلكها رئيس المجلس الحالي “محمد تكالة” ، ولا تمكنه الظروف الحالية من أن يمارس أيا نشاطات مشابهة لها ، خصوصا وهو الذي جاء بمعية حكومة الوحدة الوطنية في صفقة مباشرة معها ، ما قد يجعل هيمنة الحكومة على المجلس أمرا عالي الإحتمال.
حكومة الوحدة الوطنية الرابح الأكبر
بالحديث عن الرابحين في انتخابات المجلس الأعلى للدولة ، فإن الرابح الأساسي فيها هي حكومة الوحدة الوطنية التي راهنت على سقوط المشري ، وسعت إلى حصاره قبل ذلك حصارا سياسيا وماليا بل وحتى ع لى الصعيد الاجتماعي عبر حملات إعلامية موجهة ، سعت لضرب المجلس الأعلى للدولة و وضعه في خانة مجلس النواب ضمن حملة “يسقط مجلسا النواب والأعلى للدولة”.
وأستنادا إلي ماسبق ، فأن فرص الحكومة في استغلال فوز مرشحها أو من تحالفت معه في الانتخابات يمكن أن يُنظر لها في سياق واحد ، وهو سياق حلحلة المخاطر المتعلقة بإزالة وجود مقترح الحكومة كمسار إختياري لحكومة ثالثة وتوحيد السلطة التنفيذية ، بالإضافة إلى رسم مسار جديد من المفاوضات مع حفتر ومن ينوب عنه في مجلس النواب ، وصناعة تفاهمات جديدة في بسط سلطانها على المؤسسات السيادية في البلاد ، كديوان المحاسبة والمصرف المركزي والرقابة الإدارية وغيرها، وهو ما يفتح المجال بشكل شامل لأن ” تتغول ” حكومة الوحدة الوطنية مع شريكها في شرق البلاد “حفتر ” على المشهد السياسي ، في ظل عدم حضور أجندة واضحة المعالم علي المستوي الاجرائي للانتخابات على الطاولة وغياب الإهتمام الدولي الحاسم لإنجازها ، والإنشغال الدولي بالمشكل الإفريقي ، وقدرة حكومة الوحدة على تقديم نفسها دوليا كطرف متحكم بزمام الممشهد الحكومي والمؤسسات الرسمية.
وعليه فأن ، المسار الذي ستتبناه الحكومة – حسب تسريبات – هو السعي إلى الضغط من أجل الحصول على انتخابات نيابية يعزز فيها ” الديبيبة “حضوره السياسي ، خصوصا مع الشعور العام بالإنجاز علي المستوي التنفيذي لحكومته ، إضافة الي الرافد الشعبي الذي تتحلى به الحكومة مؤقتا ، وهو ما يعطي فرصا كبيرة لمزيد من الإنجازات علي الأرض ، في حال استطاعت الحكومة إقناع البعثة والأطراف الدولية بالقدرة على إنجازها دون خروقات ونتائج سلبية.
الخلاصة :
تنفست حكومة الوحدة الصعداء بهزيمة “خالد المشري” في انتخابات مجلس الدولة ، كما ضمنت الحكومة تحييد مسار التعديل الدستوري الثالث عشر تحت مسمى توحيد السلطة التنفيذية بإتفاق المجلسين.
كما عززت حكومة الوحدة حضورها في رئاسة المجلس الأعلى للدولة ، بفوز ” محمد تكالة ” الذي سعت الحكومة بكل الطرق أن يتبوء رئاسة المجلس الأعلى للدولة ، ويكسر خمس سنوات من احتكار المشري لرئاسة المجلس.
يعد ” عقيلة صالح ” الخاسر الأبرز ، من هزيمة المشري ، خصوصا بعد مستوى التناغم في المناورات السياسية الذي وصل إليه الرجلين ، كما أن الحكومة تعد الرابح الأكبر بما سيتيح لها بسط سلطانها على المشهد السياسي بشكل أعمق والتمدد إلى المؤسسات السيادية بالتفاهم مع حفتر وكتلته داخل مجلس النواب.
لتحميل الملف إضغط هنا
هذا المحتوى متوفر أيضًا باللغة: English Français Türkçe Italiano