تمهيد :
لازالت مدينة بنغازي منذ انطلاق ثورة 17 فبراير تتوالى فيها الأحداث التي لا تعكس مسار الحرية التي نادت به الثورة ، و لمسار الاستقرار والأمن الذي يتبناه خليفة حفتر منذ 2014. لقد كان آخر هذه الأحداث ما تشهده المدينة منذ يوم 6 أكتوبر 2023، من حالة من التوتر إثر عودة وزير الدفاع الأسبق ” المهدي البرغثي” إلى المدينة ، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات بين مجموعة من المسلحين الموالين للعقيد البرغثي والمرافقين له ، وتشكيلات عسكرية وأمنية تتبع لما يسمى بالـ” قيادة العامة”. “علما بإن المهدي هو احد أعمدة عملية الكرامة منذ ايامها الإولي فهو كان احد القادة الميدانيين لها بحكم قيادته للكتيبة 204 دبابات وهو المتهم الأول في تسليح وتجهيز ماعرف “بالصحوات ” خاصة منطقة بوهديمة الذين كان لهم الأثر الكبير في تهجير الكثيرين من أبناء وعائلات المدينة كما ذكرت عدة تقارير دولية لحقوق الانسان”.
يبدو أن عنف الإشتباكات وما تسببت فيه من تمرد وعصيان ، اعتادت المدينة عليها، هي سبب انقطاع الاتصالات وخدمات الإنترنت عن المدينة ، ولم يكن هناك تفسير أو تبرير مقنع لهذا الانقطاع ، الذي لازال مستمرًا منذ يوم 7 أكتوبر الماضي ، الأمر الذي جعل كل الاحتمالات واردة حول حقيقة مايجري في بنغازي.
رواية دخول المهدي هي مفتاح لفهم حقيقة المنعطف الأمني الذي تشهده المدينة ، حيث تتعدد الروايات التي تحاول أن تبين الكيفية التي دخل بها البرغثي وفريقه إلى بنغازي ، والتي أدت إلى استثارة ” القيادة العامة “، وجعلها تشتبك مع الأفراد المرافقين له. حيث تشير مصادر إلى أن الترتيب والتنسيق لعودة المهدي للمدينة جرى عن طريق شخصيات قبلية واجتماعية كبيرة في بنغازي ، سعت إلى أن تكون العودة وفق ترتيبات مرضيه عنها من القيادة العامة ، تتضمن تلك الترتيبات أن يتم التعامل مع البرغثي كأي مواطن عادي ، ويُستقبل في مطار بنينا بحسب الإجراء المتبع لرجل عسكري ، وذلك بأن تتسلمه سيارة عسكرية ويتم إجراء تحقيق شكلي معه لتسوية وضعه والعودة به إلى المدينة.
في المقابل يصر آخرون على أن الرهان كان على البعد القبلي لمهدي البرغثي ، وعلى تخمينات بأن المشير ” خليفة حفتر” وأبناءه غير معارضين لرجوعه إلى بنغازي ، وفق المتطلبات الإنتخابية التي يسعى إليها حفتر وأبناءه في المرحلة القادمة ،
بمعنى أنه لايوجد أي تنسيق رسمي لعودة البرغثي ، وكان الاعتماد على البعد القبلي وافتراض نية القيادة وظروف المرحلة ، لذلك ، تؤكد هذه المصادر إلى أن دخول الوزير السابق إلى مدينة بنغازي كان بسلاسة ويسر، وتم برفقة 15 سيارة عسكرية جاءت من مدخلها الجنوبي عبر مدينة سلوق التي تربطه ببعض مكوناتها صلات اجتماعية ، ودخل منها إلى مدينته دون اعتراض من أي جهة ، وبعد ساعات من وصوله ، انتشرت صور ومقاطع فيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تثبت وجود المهدي البرغثي في بنغازي في مظهر يبدو أنه لم يرق لحفتر، حيث ظهرت صور تظهره وهو يستقبل داعميه في بيته، وتوالي قدوم الشخصيات التي جاءته للتهنئة ، وفرضت على العائلة توسيع نطاق المضافة ، فتم نصب خيمة لاستقبال الضيوف، وسط وجود سيارات عسكرية وعدد من المسلحين.
لذلك ، وبحسب ماتم تداوله ، فإنه تم تسليم المهدي بلاغ ضبطه وإحضاره ، لكن الأخير لم يتعاون مع البلاغ بحجة أن الإجراء غير قانوني ، لوجود تراتبية عسكرية ووجوب أن يُجرى ذلك عبر الشرطة العسكرية ، فلم يعبأ بأي مخاطر محتملة لعدم امتثاله ، واستمر في استقبال داعميه.
وعلى إثرها قامت قوة عسكرية تابعة للـ” قيادة العامة ” بمحاولة تطويق واقتحام المكان ، مما سبب في اندلاع اشتباكات خفيفة مساء يوم 6 أكتوبر الماضي ، بين القوة المكونة من اللواء طارق بن زياد وتشكيلات عسكرية أخرى ، وعدد من أفراد عائلة البرغثي وأخواله من قبيلة المغاربة وبعض العناصر العسكرية التي تدين بالولاء للمهدي ، وعلى إثرها حاصرت قوة عسكرية منطقة السلماني التي تمركز فيها المهدي ، مستخدمةً أنواع من الأسلحة المختلفة، وحدث تبادل كبير لإطلاق النار وجرى تطويق المنطقة والمناطق المحيطة بها لساعات طويلة.
وعلى إثر هذه الأحداث حدثت عدة تطورات أخرى، أهمها:
- خروج شيخ البراغثة “عبدالسلام عبدالعاطي” على أحد القنوات الفضائية ينفى فيها شائعة اعتقاله، رغم أن مصادر أخرى تذكر أن الشيخ قبلها قد تم استدعاءه للرجمة ، وأن الصور التي خرجت من بيته وأظهرته محتفياً بالناس التي قدمت إليه قد عبرت عن شيء مختلف.
- الوثيقة التي أخرجها الحقوقي ” ناصر الهواري ” والتي تتبث أن ” العمدة عبدالسلام عبدالعاطي البرغثي ” بصفته المنسق الإجتماعي للقوات المسلحة عن مدينة بنغازي وضواحيها ورئيس لجنة الصلح لمكون قبائل الجبارنة ، ممهورة بثلاثة
اختام وتوقيعاتها ، وكذلك توقيعات لعدد 19 من أعيان المنطقة الشرقية ، وجه في هذه الوثيقة خطاباً للمنسق العام للقيادة العامة للقوات المسلحة للشؤون الإجتماعية ينقل فيه رغبة المهدي البرغثي في المصالحة والعودة إلى مدينة بنغازي وأرفقه بخطاب لبعض الأعيان من بيت ” الأشل ” أحد بيوتات قبيلة البراغثة موجه إليه شخصياً تؤكد فيه رغبة ابنهم المهدي البرغثي في المصالحة والعودة ، وتخول فيها العمدة بمخاطبة القيادة العامة بذلك ، وأنهم ينشدون فتح صفحة جديدة للقيادة العامة مع البرغثي ، هذه الوثائق تنفي مايثار حول دخول البرغثي فجأة وبأجندة تخريبية للخوارج والارهابيين كما وصف فرج قعيم ، وتضع الشخصيات الإجتماعية الموقعة والضامنة وقواعدها الشعبية في حرج شديد وفي موقف لايحسدون عليه ، وذلك بعد تطور الأوضاع بشكل أدى إلى حصول مواجهات عنيفة نتج عنها إصابات ووفيات بحسب الكثير من المصادر.
- بينما تحدث ” أسامة حماد ” عن أن البرغثي دخل إلى بنغازي متسللا ضمن ” فزعة خوت ” لإغاثة درنة ، فإن ” فرج قعيم” أشار بأنه دخل المدينة من طرق صحراوية صحبة ما سماهم ” خلايا الإرهابيين “، والذين اتهمهم بالشروع في تنفيذ مخطط قطع الإتصالات عن بعض مناطق بنغازي لإحداث فوضى في المنطقة الشرقية ، ثم تهديده بأنه سيلاحق كل من يتحدث عن ” القيادة والمنطقة الشرقية ” بنوع من النقد ، كل هذا جعل الكثيرين يدركون مدى خطورة مايجري على الأرض في بنغازي ، وأن التأخر في الحديث عن مجريات ووقائع الأحداث كانت بسبب ثقل الحدث أمنياً واجتماعياً.
- أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن قلقها إزاء الاشتباكات المسلحة في بنغازي واستمرار انقطاع الاتصالات ، وأكدت أنها تواصل التحري عن التقارير الواردة بشأن وقوع ضحايا مدنيين، وتذكر البعثة المنخرطين في الاشتباكات بضرورة احترام التزاماتها بحماية المدنيين.
الخلاصة :
ومن خلال هذه الأحداث يمكن القول بأن:
- ماجرى للمهدي البرغثي ينسف كل الجهود والترتيبات التي دأبت على تسويق رغبة حفتر وأبناءه لطي صفحة الماضي ، من خلال تصريحاتهم ولقاءاتهم التي عبروا خلالها عن السماح للمهجربن بالعودة واسترجاع مساكنهم وأملاكهم ، وأنه آن الأوان لرفع شعار الوئام والمصالحة مع الجميع من أجل الوطن.
- هناك حالة من الإرتباك في التعاطي الإعلامي مع الحدث ، والتأخر من قبل حكومة حماد و المسؤولين والأجهزة المعنية في توضيح ملابسات مايحدث في بنغازي ، وخصوصاً بعد انقطاع الاتصالات ، فضلاً عن التناقض بين روايتي حماد وقعيم حول طريقة دخول البرغثي إلى بنغازي، مما يعطي دلالة على الصدمة التي حدثت عند الجميع ، وأن الوضع الأمني مازال غير مستقر أمام تعقيدات الواقع الإجتماعي التي عمل حفتر على تطويعه بالكامل لصالح مشروع السلطة والنفوذ.
- المشير حفترلايسمح لأي شخصية لديها طموح أو نزعة قيادية سياسية بأن تجد المجال المناسب للعمل والحركة، والمبرر لذلك ، وفق تصوره ، الانتماء للإخوان المسلمين والإسلاموية السياسية والجهادية .. وإلخ من المبررات ، التي يرى بأن الشارع لن يسمح بعودتها ولا لتصدرها المشهد من جديد.
- إن دخول الأمم المتحدة على خط الأزمة يشير إلى مدى خطورة هذه الاشتباكات وتداعياتها ، في وقت يسعى فيه المبعوث الأممي لتسوية الصراع بين المنطقتين الشرقية والغربية ، خاصةً وأن المنطقة الشرقية لم تعتاد على مثل هذه الاشتباكات كثيراً خاصة في الفترة الزمنية السابقة ، بعكس المنطقة الغربية ، نظراً للسيطرة الأمنية والعسكرية المشددة التي يفرضها حفتر على المنطقة الشرقية.
انتشار تسجيل مصور للقبض علي المهدي البرغثي بصورة مهينة ومذلة ( لو صدق التسجيل ) ، يعطي انطباعا لدي الجميع بإن الأوضاع في المنطقة الشرقية لازالت تعاني من قبضة امنية متشددة ، لا يمكن ان ترضي الا بمن يدين لها بالولاء والانصياع ، ويكون خادما لها ومطيعا لإوامر القيادة العامة