مقاربة بنيوية-تاريخية لأسباب فشل الدولة الليبية
علي بن موسى
باحث مساعد، معهد الدوحة للدراسات العليا، الدوحة.
الملخص:
بعد مرور ما يقارب عقد من الزمن على سقوط نظام القذّافي، لا تزال ليبيا تغرق في الفوضى إلى الحد الذي أصبح يُشار إليها كدولة فاشلة بحسب عدد من المراقبين والدراسات السياسية والأمنية. وتجدر الإشارة بأنه في تاريخ الدولة الليبية الحديثة منذ الاستقلال عام 1951 إلى يومنا هذا ، تبدوا محاولات الليبيين لإقامة دولة حقيقية بمثابة “أمنية” بعيدة المنال. وبالرغم من أن فشل المشروعين السابقين في بناء دولة قوية (المملكة الليبية 1951، الجماهيرية 1969)، إلى أن عدم النجاح يعتبر شأن محلي بدون تبعات خطيرة خارج حدود الدولة.
إلا أن الاضطرابات المستمرة كتبعات لما يعرف بأحداث الربيع العربي سنة 2011، فتحت الباب أمام تحوّلات سياسية واقتصادية واجتماعية داخل كل من المجتمع والدولة الليبية. تجلّت في فوضى مؤسّسية عارمة، انقسامات سياسية ومجتمعية حادّة، ووجود عدد كبير من الميليشيات المسلّحة، بالإضافة إلى تدخّل خارجي غير مسبوق لقوى إقليمية ودولية ساهم في استمرار حالة الفشل. سنقدّم في هذه الورقة مقاربة بنيوية-تاريخية، لمعرفة أبرز الأسباب التي نعتقد بأنها تقف وراء فشل الدولة الليبية حالياً.
مدخل: كمحاولة لفهم طرق تشكّل الدولة في العالم العربي وصولاً إلى فشلها وتفكّكها، يجادل كل من (رايموند هينيبوش، وأدهم صولي، 2021)، بأن مسار نشوء الدولة يقوم على احتكار ثلاثة عناصر سياسية متداخلة مع بعضها البعض داخل الفضاء الاجتماعي وهي: احتكار العنف، الإطار الإيديولوجي، والموارد الاقتصادية. يشير العنصر الأول أي (احتكار العنف)، إلى السيطرة على الأجهزة القسرية المُستخدَمة من قبل الدولة للإكراه، كالجيش والشرطة وأجهزة الأمن، والتي من خلالها تستطيع النخب الحاكمة منع منافسيها من الحصول على موارد العنف اللازمة لتهديد سيطرتها. وتتحدّث معظم الأدبيات استناداً لعدد من التجارب التاريخية عن احتكار العنف كعنصر حاسم في قيام الدول. بصفته مهمّاً للتبادل الاقتصادي، فضلاً عن تأسيس النظام السياسي والقانوني. أما من الناحية النظرية، يربط كلا الباحثان بداية اندلاع الحروب والفوضى بفقدان الدولة قدرتها على احتكار وسائل العنف في الفضاء الاجتماعي[1].
فيما يتعلّق بالعنصر الثاني (الاقتصاد)، لعبت السيطرة على الموارد الاقتصادية من خلال جباية الضرائب التي قام بها ملوك أوروبا سابقاً، دوراً رئيسياً في نشوء الدولة القومية الحديثة لسببين جوهريين: أولاً، لتمويل الحروب الخارجية بين الدول. وثانياً، لإبعاد المنافسين المحلّيين عن السلطة[2].
تكتسب السيطرة على الاقتصاد أهميتها أيضاً في الدول العربية الثرية ومحدودة الدخل على حد سواء. بالنسبة للدول الغنية بالموارد الطبيعية (النفط والغاز)، تم استخدام الفائض من الريع، في تحقيق مزيد من الاستقلال عن القوى السياسية والاجتماعية، إما بمكافأة الموالين للنظام، أو لمعاقبة الخصوم. بينما في الدول التي تفتقد لمصادر الثروة الطبيعية كتونس ومصر على سبيل المثال، مكّنت السيطرة على الاقتصاد الأنظمة السياسية في كلا البلدين، من خلال إصلاح الأراضي وإحلال الواردات في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وعبر رأسمالية المحاسيب في الثمانينات من نفس القرن كلا النظامان من إعادة انتاج السلطة[3].
أما الإيديولوجيا فتبرز أهمّيتها في كونها: أولاً، تحدّد معايير السلوك الاجتماعي-السياسي. ثانياً، تأسيس الشعور القومي بالانتماء للأمة وإعادة انتاجه ضمن سياق بناء الدولة. ثالثاً، تعبئة القوى المجتمعية وتنظيمها لمواجهة الخصوم في الداخل والخارج. رابعاً، إضفاء الشرعية على النظام السياسي الحاكم[4]. عملياً، استخدم الملك عبد العزيز مؤسس المملكة العربية السعودية، تفسير المدرسة الوهابية للإسلام من أجل تجاوز الانقسامات الإقليمية والقبلية داخل المملكة وتوحيدها، وعلى إثر ذلك أصبحت الوهابية بمثابة الإيديولوجيا الرسمية للدولة السعودية. على الجانب الآخر، قامت الأنظمة الشعبوية في (مصر وسوريا والعراق واليمن) نتيجة تأثّرها بأفكار مناهضة الاستعمار والاستقلال الوطني، بتبنّي الأيديولوجيا القومية والاشتراكية (الناصرية، البعثية). بالأخص في خمسينيات وستينيات القرن العشرين وذلك لنزع الشرعية عن الأنظمة الملكية التي قامت بعد الاستقلال، ولقمع منافسيها الذين يحملون إيديولوجيات مخالفة كالحركات الإسلامية[5].
أسفرت الانتفاضات التي اندلعت في نهاية العام 2010 وما تخللها من اضطرابات سياسية-اجتماعية، وحروب أهلية ونزاعات مسلّحة، عن خلل بنيوي عميق داخل عدد من الدول العربية أدّى إلى زيادة ضعفها وفي أحياناً أخرى فشلها. كما عجّل التنافس بين القوى الدولية والإقليمية من ضم بعضها لحروب بالوكالة أدّت بالوضع إلى مزيد من الانحدار.
بناءًا على ما سبق، ستناقش هذ الورقة ظاهرة فشل الدول بشكل عام، و الدولة الليبية بشكل خاص، وذلك من خلال تتبّع مكامن الضعف التاريخية في الدولة الليبية التي نشأت بعد الاستقلال، والتي يبدوا أنها تعاني من ضعف شديد في المؤسسات السياسية والاقتصادية، كما تفتقر لإيديولوجيا حقيقية تعبّر عن شرعيتها. بالإضافة إلى تأثير التدخّل الخارجي الممثّل بشقّيه (الإقليمي والدولي) عليها، وكيف انعكس ذلك على مجريات الأحداث التي تلت سقوط نظام القذّافي السلطوي، حيث لا يمكن اعتبار ليبيا ولعدّة أسباب (دولة فاشلة) قبل 2011.
1-الإطار النظري والمفاهيمي للدولة الفاشلة: ظهر مفهوم الدولة الفاشلة كنتيجة لاهتمام صانعي السياسة الدولية بالمخاطر التي قد تنشأ بسبب فشل الدول، وأثر ذلك على الاستقرار العالمي. ومنذ نشأته، كان المفهوم مثيراً للجدل[6]. وبحسب تشارلز كال، فإن بروز هذا المفهوم يعود إلى أوائل التسعينيات، حيث كان لانهيار الدولة الوطنية في الصومال دوراً رئيسياً في ظهور مفاهيم من قبل ” الدولة الفاشلة” و ” فشل الدولة”. كما أدّت أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى امتلاكه أهمية متزايدة لدى الدوائر الأمنية في أمريكا.
وقد لعبت تحرّكات تنظيم القاعدة العابرة للحدود الوطنية وعملياته التي استغلت فشل الدولة في أفغانستان، دوراً في تزايد الدراسات والبحث حول أسباب فشل بعض الدول[7]. حيث يعتبر شتاين أريكسن بأن هناك مقاربتان مسيطرتان على فهم ظاهرة فشل الدولة بشكل عام. يمثّل المقاربة الأولى كل من روبرت روتبرغ، ويليام زارتمان، والتي ترى بأن الدولة عبارة عن مقّدم للخدمات[8]. ويتضّح ذلك من خلال التعريفات التي قدّمها كل منهما.
يعرّف روتبرغ الدولة الفاشلة على أنها: “الدولة التي تحتوي على مؤسسات ضعيفة أو معيبة، أي فقط المؤسسات التنفيذية هي التي تعمل. وإذا كانت الهيئات التشريعية موجودة، فهي الآلات ختم مطاطي. النقاش الديمقراطي غائب بشكل ملحوظ، القضاء مشتق من السلطة التنفيذية بدل من أن يكون مستقلاً، يعلم المواطنون بأنهم لا يستطيعون الاعتماد على المحاكم في الحصول على الإنصاف والتعويض خاصة ضد الدولة. فقدت البيروقراطية منذ فترة طويلة إحساسها بالمسؤولية المهنية وهي موجودة فقط لتنفيذ أوامر السلطة التنفيذية، وببساطة لقمع المواطنين. ربما يكون الجيش هو المؤسسة الوحيدة الباقية من النزاهة، لكن القوات المسلحة للدول الفاشلة غالبًا ما تكون مسيسة إلى حد كبير”[9]. بينما قدم زارتمان لإنهيار الدولة (فشلها) التعريف التالي : ” هو عدم القدرة على تنفيذ الوظائف الأساسية للقانون والنظام والحكم الرشيد وعدم القدرة على صنع القرارات، وتنفيذها من خلال الهيئات التنفيذية المسؤولة عن اتخاذ القرارات”[10].
يحدّد كلا التعريفان مجموعة من الخدمات التي يفترض أن تقدّمها الدولة، كحفظ الأمن والقانون، المشاركة السياسية، بالإضافة إلى الخدمات المتعلّقة بالبنى التحتية كالصحة والتعليم،….الخ،يجادل روتبرغ تحديداً، بأن الخدمات التي تقدّمها الدولة تأخذ شكل سلسلة هرمية يقع توفير الأمن في قمّتها وبدونه لا تستطيع الدولة تقديم الخدمات الأخرى. يقصد بالأمن هنا (الأمن القومي، أمن الفرد، النظام العام)[11]. وبما أن روتبرغ يرى بأن الفشل يجب أن يُفحص باعتباره سلسلة متصلة، فهو يميّز بين الحالات المتنوعة للدولة بين القوية والضعيفة والمنهارة تماماً. هذا بسبب امتلاك الدول لبعض السمات التي لا تتوفر في غيرها، ففي حين تستطيع الدولة احتكار العنف، قد لا تستطيع توفير البنية التحتية أو المحافظة على سيادة القانون، كما أن بعض الدول لديها جيوش وأجهزة أمنية قوية في حين تفتقر بيروقراطيتها للفاعلية[12]، من هنا يمكن استنتاج أن المقاربة الأولى تضع مفهوم ” فشل الدولة” كمعيار يتم على أساسه قياس حالات معيّنة.
تختزل المقاربة الثانية مفهوم “الفشل” في عدم قدرة الدولة السيطرة على أراضيها واحتكار العنف داخل حدودها، يعتبر كل من المنظرين في حقل العلاقات الدولية (روبرت جاكسون، ستيفن كراسنر) من أبرز مؤيدي هذه المقاربة. حيث يرى روبرت جاكسون بأن ” الدولة الفاشلة غير قادرة على ضمان الحد الأدنى من الشروط المدنية للسلام والنظام والأمن”[13].
بينما ستيفن كراسنر ينظر إلى فشل الدولة باعتباره يتمثّل في عدم قدرتها على حماية السيادة التي حدّد لها ثلاث مكوّنات: أولاً، السيادة القانونية، بمعنى الاعتراف الدولي والقانوني الذي يتم منحه للكيانات الإقليمية المستقلّة والقادرة على الدخول مع الدول الأخرى في علاقات ذات ترتيبات تعاقدية طوعية. ثانياً، السيادة بمعنى غياب عامل التدخّل الخارجي في صنع القرارات الداخلية للدولة (مبدأ عدم التدخّل). ثالثاً، السيادة المحلّية، والتي من خلالها يمكن للدولة أن تضع القوانين التي يجب على المواطنين في المجتمع اتّباعها، على الأقل من خلال القدرة على تطبيقها. وبحسب كراسنر فأن الدولة ذات السيادة يجب أن تكون أولاً قادرة على احتكار العنف داخل أراضيها[14].
تمتلك كلتا المقاربتين حدوداً في تفسير مفهوم فشل الدولة، بسبب التحيّز المعياري لنمط الدولة القومية الحديثة التي ولدت في أوروبا، وبشكل أدّق الدولة (الفيبيرية). وحيث من الطبيعي أن تفقد بعض الدول السمات الأساسية المرتبطة بمفهوم الدولة على النمط الغربي كاحتكار العنف، السيادة، توفير الخدمات،…الخ، بالتالي تظهر “الدولة الفاشلة” على أنها صورة مشوّهة للشكّل الحقيقي للدولة بمعناها الغربي. يتم توصيف هذه المقاربات في فهم الدول حسب محمود ممداني بـــــــــــــــ” التاريخ بالقياس”، الذي يُظهر تجربة الدول غير الغربية بما فيها دول ما بعد الاستعمار على أنها انحراف عن المسار الطبيعي لنشوء الدولة القومية الحديثة في أوروبا، من هنا أصبح يُنظر إلى غياب أي معيار متوفّر في الدولة الحديثة على النمط الغربي على أنه مشكلة تستوجب الإصلاح[15].
في إطار البحث في أسباب فشل الدول، تشير معظم الأدبيات إلى أن عملية الإنهيار والتفكّك لا تحدث بطريقة مفاجئة، بل تحصل بطريقة تدريجية تتطلّب وجود عامل أو أكثر على الأقل. فيجادل روبرت روتبرغ، بأن فشل الدولة سببه الإنسان بالدرجة الأولى، بمعنى آخر تتحمّل القيادة السياسة المسؤولية الأكبر في إضعاف الدولة التي أصبحت على حافة الفشل، على الرغم من تأكيده على أن الدول لا تنشأ على قدم المساواة سواءً فيما يخصّ حجمها وإمكانياتها المادّية والبشرية وقدرتها على تقديم الخدمات[16].
ويقصد بهذا في مقال أخر، بأنه عندما تفشل قيادة الدولة في بالقيام بمهامها الأساسية، فإنها ستواجه تحدّيات أكبر لشرعيتها السياسية، خاصةً إذا استمرت النخب الحاكمة ومجموعات المصالح الرئيسية في خدمة مصالحها الشخصية متجاهلة احتياجات قطاعات واسعة من المجتمع، هذا بدوره يؤدي إلى تعظيم الشعور بالظلم والحرمان لدى شرائح القوى الاجتماعية التي ستكون جاهزة في أي لحظة للتخلّي عن العقد الاجتماعي الذي من المفترض أن يربط بينها وبين الهياكل الرسمية للدولة. وستضاعف الانقسامات على المستويين السياسي والاجتماعي في تحويل ولاءات المواطنين من الدولة إلى هويّات فرعية (طائفية، عرقية، إثنية، دينية، قبلية، جهوية،…إلخ)، يمكن بدورها أن تؤدي إلى نشوب حرب أهلية يعتبرها روتبرغ كمؤشر جوهري على فشل الدولة[17].
يؤكد إدوراد نيومان على أن بنية النظام الدولي المعولمة Globalized) التي بدأت تتشكّل بعد الحرب الباردة، أدّت إلى المزيد من التدخّلات الخارجية والحروب بالوكالة داخل الدول الهشّة والضعيفة، وقلّلت بالمقابل من الحروب العسكرية التقليدية التي كانت تحصل بين الدول سابقاً[18].
فرضت الظروف الدولية التي نشأت في خضم النظام العالمي الجديد، علاقة معقّدة وجدلية تكونت على المستوى الدولي بين الحرب والتدخّل الخارجي وبين فشل الدولة، ففي حين يمكن أن يقود فشل الدولة إلى الحرب والتدخّل الخارجي كما في (الصومال)، يمكن للحرب أن تقود إلى فشل الدولة والتدخّل الخارجي (سوريا)، أو للتدخّل الخارجي أن يتسبب في حرب وفشل للدولة معاً (كالاحتلال الأمريكي للعراق).
يرى كل من (Shahida Aman, Shagufta Aman)، أن السياسات التي رافقت النظام الدولي بعد الحرب الباردة لعبت دوراً بنيوياً في التعجيل بفشل الدول الضعيفة، وذلك عندما أحدثت المؤسسات المالية الدولية الأكبر في العالم (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي)، مدفوعةً بالإيديولجيا النيوليبرالية الجديدة، تغييرات هيكلية في اقتصادات دول العالم الثالث الضعيفة. وذلك بتقليص دور الدولة في السيطرة على الاقتصاديات المرهقة التي تعاني من مستويات فساد عالية وتضخّم في حجم القطاع العام، حيث أجبرت برامج مايعرف بالتكيّف البنيوي عدداً من الحكّام في الدول النامية، على اتّباع المزيد من سياسات احتكار توزيع المواد وتخفيض الانفاق على الرفاه الاجتماعي المستخدم لشراء الولاءات.
ساهمت هذه السياسيات في حدوث أزمات اقتصادية حادّة للأنظمة السلطوية-الوراثية التي كانت تحتكر توزيع الثروة. مما فتح الباب أمام نشوب صراعات وحروب أهلية داخل هذه الدول بسبب فشل بعض الدول في معالجة تبعات سياسة التكيّف البنيوي التي تضرّرت منها الطبقات الوسطى والوسطى الدنيا بشكل كبير. كان لهذه المتغيّرات بشكل أو بآخر، دوراً في ظهور مشاكل أمنية وسياسية لدى العديد من الدول الهشّة التي تحوّلت إلى دول فاشلة فيما بعد، مما جعل قضية إعادة بناء الدولة في أولويات النقاش الدولي حينها[19].
وتعزّز العولمة على المستوى الاقتصادي بدورها من إطالة أمد فشل الدولة، كمثال على ذلك، تستغل بعض الجماعات المتمرّدة وأمراء الحرب أسواق التجارة العالمية في إنعاش اقتصاد الحرب المتفشّي في الدول الفاشلة، والذي يمثّل المصدر الرئيسي للدخل بواسطة الأنشطة غير المشروعة كبيع المخدّرات والسلاح والنفط[20].
تفصح أدبيات السياسة المقارنة، عن محاولات إسقاط الأنظمة كنتيجة للثورات الشعبية، كمُسبّب لفشل الدولة بدلاً من بناء نظام ديمقراطي، خاصةً إذا ما توافرت بعض الشروط التي تساعد على ذلك. فيجادل كل منJason Brownlee, Tarek Masoud, and Andrew Reynold,) في دراستهم حول الربيع العربي، بأن عملية الإطاحة بالرئيس أمرٌ يختلف تماماً عن بناء مؤسسات ديمقراطية تتمتّع بالاستقرار والاستدامة. وعلى الرغم من أن الديمقراطية كانت المطلب الأول للمحتجّين الذين تصدّروا ثورات الربيع العربي، إلا النتائج التي بدأت في الظهور بعد ذلك تختلف كليّاً عمّا طالب به المشاركون في الانتفاضات[21].
ويؤكد على ما سبق رايموند هينيبوش في مقاله بعنوان (مقاربة في علم الاجتماع التاريخي لفهم التباين في مرحلة ما بعد الثورات في البلدان العربية، 2018)، الذي حدّد فيه ثلاث نتائج مختلفة لثورات الربيع العربي وهي: الدولة الفاشلة، نظام هجين، انتقال ديمقراطي[22]. وتربط نفس المقالة تأثير الثورات في الأنظمة السياسية العربية بتاريخ نشأة الدولة فيها، فكلما كان اندلاع الصراع على السلطة في كيان سياسي يتمتّع بتاريخ طويل من ممارسة السلطة في شكل دولة، إضافة إلى وجود تقليد طويل من البروقراطية، وإجماع ولو بسيط على المعايير السياسة، كلما كان فشل الدولة أمراً بعيد الاحتمال. في المقابل كلّما كان عمر الدولة أقصر، بحدود مفروضة من الخارج (كالحدود التي أنشأتها القوى الاستعمارية في الدول العربية)، وتتنافس فيها هويات دون مستوى الدولة (قبلية، طائفية، دينية، عرقية)، كلما كان تماسكها معتمداً بشكل رئيسي على بقاء النظام الحاكم ونخبه إلى الحد الذي يصعب فيه فصلهما عن بعض. وبالتالي كلما ضعف النظام، كانت الدولة أكثر عرضة للإنهيار والفشل[23].
2-ليبيا كنموذج للدولة الفاشلة: في الوقت الحالي يوجد عدد كبير من الشواهد على فشل الدولة في ليبيا، أبرزها مؤشر الدول الهشّة الصادر عن صندوق السلام ومجلّة foreign policy في أمريكا. تستند تصنيفات المؤشر إلى إثني عشر مؤشرًا لضعف الدولة، مجمّعة حسب الفئة: التماسك الاقتصادي، السياسي، الاجتماعي. ووفقاً للتقرير السنوي الصادر في 2021: “من عام 2011 إلى غاية عام 2021، شهدت ليبيا زيادة قدرها 28.3 نقطة في درجة هشاشتها، من 68.7 إلى 97.0، وزيادة في ترتيبها بمقدار 94 مكانًا، من المرتبة 111 إلى المرتبة 17. كل مؤشر على حدة لهشاشة الدولة باستثناء عدم المساواة الاقتصادية هو أعلى مما كان عليه في عام 2011. وعلى الأخص ، يتضمن هذا زيادة 3.7 في جهاز الأمن ، وزيادة 5.0 في الاقتصاد ، وزيادة 3.1 في درجات مؤشر الخدمات العامة[24]“.
يمكن الاستشهاد بالمؤشرات التي تصدرها منظّمات أخرى أيضاً، كتصنيف الأمم المتّحدة للتنمية البشرية في العالم 2019، الذي تقع فيه ليبيا ضمن المرتبة الــ 119 من أصل 189 دولة. إضافة إلى مؤشر الشفافية الدولي والذي يضع ليبيا في مرتبة سيئة للغاية، بسبب ارتفاع مستويات الفساد التي تعتبر الأعلى في العالم، فبحسب “تصنيف ممارسة الأعمال ” التابع للبنك الدولي سنة 2018، جاءت ليبيا في المرتبة الــ 186 من أصل 190 دولة، مما يجعلها واحدة من أكثر الدول فساداً في العالم[25].
على أرض الواقع، انعكس فشل الدولة على جميع مظاهر الحياة اليومية بالنسبة للمواطنين، فتقرير منظمة الأمم المتّحدة الصادر عام 2017 يشير إلى حاجة 1.3 مليون إنسان في ليبيا لمساعدات إنسانية، بالإضافة إلى مشاكل متعلّقة بالجانب الخدمي كالماء والكهرباء والمرافق الصحّية التي تعمل بنيتها التحتية بنسبة 60% بشكل جزئي. كما ساهم انعدام الأمن وضبط الحدود في تحوّل ليبيا إلى نقطة انطلاق بالنسبة للمهاجرين القاصدين أوروبا عبر المتوسط، حيث تقدّر إحصائيات صادرة عن الاتّحاد الأوروبي بأن 95% من 85,183 شخص وصلوا إلى إيطاليا قادمين من ليبيا، كما لعبت الحدود المخترقة مع انتشار السلاح بعد اضطرابات عام 2011 دوراً رئيسياً في جعل البلد مرتعاً خصّباً للجماعات الجهادية كداعش وغيرها[26].
من أجل فهم استمرار فشل الدولة في ليبيا بعد إسقاط نظام القذّافي عام 2011، تفترض هذه الدراسة بأن بذور الفشل كانت مزروعة بالفعل تاريخياً، فتشكّل الدولة الليبية الحديثة بعد عام 1951، يفتقر إلى أهم عنصرين في بناء دولة راسخة الأركان كما أشارت الأدبيات في الأعلى (الإيديولوجيا، البنية التحتية المؤسسية)، شأنها شأن العديد من الدول العربية. التي يصفها نزيه الأيوبي في كتابه (تضخيم الدولة العربية السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط) بأنها دول ” شرسة” لكنّها غير “قوية”.
وبحسب الأيوبي فإن الدول العربية لم تولد من “رحم تاريخها الإجتماعي-الإقتصادي أو تقاليدها الثقافية والفكرية الخاصة بها “، وبالتالي كانت غالباً تلجأ لاستخدام أكبر قدر من العنف لتبقى، إلا أن هذا لم يمنع ضعفها بالمقابل. يعزوا الأيوبي ذلك لسببين: أولاً، غياب البنية التحتية القوية ولو بشكل متفاوت نسبياً، والتي بدورها تمكّن الدول من إنشاء نفوذ حقيقي لها داخل المجتمع كقدرة الدولة على استخراج الضرائب. ثانياً، افتقارها إلى وجود أيديولوجيا فعّالة تهيمن من خلالها على المجتمع، بمعنى آخر قدرتها على تشكيل كتلة اجتماعية تاريخية تعترف بشرعية النخبة الحاكمة[27].
وبالنظر إلى الحالة الليبية، نجد بأنه نتيجة لغياب عامل الأيديولوجيا، لعب الدين الدور الأهم في بناء الهوية الوطنية الليبية بعد الاستقلال شأنه شأن مكوّنات أخرى كالقبيلة التي شكّلت الوعي الاجتماعي. أدّى استخدام المملكة السنوسية الليبية للدين من أجل إضفاء الشرعية السياسية وتشكيل الهوية، بتسريع مقاومة الأوساط الاجتماعية المتأثرة بأيديولوجيا القومية العربية والاشتراكية (الشعبوية) المهيّمنة آنذاك بقيادة جمال عبد الناصر في مصر لحكمها. وانتهت الأمور بالانقلاب الذي قاده مجموعة من الضباط الشباب بقيادة معمّر القذّافي عام 1969 انتقلت بواسطته الدولة الليبية من ملكية سلطوية إلى نظام استبدادي –شخصي؛ والذي على الرغم من تبنّيه خطابات أيديولوجية (قومية، ثورية، اشتراكية)، ظلّ في حقيقته نظاماً وراثياً Patrimonial) )مرتكزاً على البنى التقليدية للمجتمع المحلّي (القبيلة، البدونة، المحسوبية السياسة)[28].
مكّنت الثروات الطبيعية (النفط والغاز) المكتشفة في ليبيا عام 1959، الدولة الليبية سواء في عهد السنوسي، أو القذّافي، من استخدام الريع لإقصاء المعارضين، بالإضافة إلى تمويل شبكات الموالين التي تحتاج إليها السلطة من أجل دعمها للبقاء في الحكم. اعتمدت الدولة الليبية (بشكل أكبر في عهد القذّافي) على عائدات النفط والغاز من أجل توفير المساعدات الاجتماعية وتمويل القطاع العام الذي يعاني التضخّم من خلال توظيف عدد كبير من العاملين في الدولة، حرصاً من النظام على إسكات أكبر عدد من المواطنين[29].
في الواقع، قام القذّافي بخلق مجموعة من السياسات التي أدّت في النهاية إلى وجود مجتمع بدون دولة .(Statelessness society) هذا على الرغم من أن ليبيا تمتّعت بالأخص في العقد الأخير لنظام القذافي بمستوى معيشي جيّد نسبياً، ونظام واسع للدعم الاجتماعي الممول من عائدات النفط، بالإضافة إلى مستويات تعليم مرتفعة بالنسبة لدول شمال إفريقيا[30].
غير أن هذا لم يمنع شخصنة المؤسسات والتي جعلت من الدولة المسؤول الوحيد عن جميع النشاطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالتزامن مع محاولة إلغاء فكرة الدولة كمحور للهوية السياسية. وعلى الرغم من وجود هياكل سياسية رسمية للسلطة (كالمؤتمرات الشعبية العامة، اللجان الشعبية)، إلا أن السلطة الحقيقة ظلّت تحت سيطرة هياكل غير رسمية للدولة (القذّافي والنخب المحيطة به، وأعضاء القبائل الموالية للنظام). على الصعيد الأمني، أنشأ نظام القذّافي أجهزة أمنية موازية للجيش تتألف من الدوائر المقرّبة من الموالين، تخوّفاً من أي تهديد محتمل يفضي للإطاحة به. ومن خلال نظام متقن من التناوب والترقيات، حافظ نظام القذّافي على دور هامشي للجيش بدون تجهيز جيّد، والذي أظهر ضعفاً كبيراً في أعقاب اضطرابات 2011.
اقتصادياً، كانت ليبيا ولا تزال تمثّل نموذج ” الدولة الريعية” بامتياز، حيث عمد نظام القذافي (بالأخص في العقود الثلاثة الأولى) على إلغاء كافة مشاريع التجارة الخاصة، من أجل إجبار المواطنين للإعتماد على الدولة لتوفير متطلّبات الحياة الأساسية. عبر ضمهم للقطاع العام، كاستراتيجية للمقايضة بين النشاط السياسي وتأمين الاحتياجات اليومية. لاتزال فكرة الاعتماد على الدولة مهيّمنة على توقّعات المجتمع الليبي حتى بعد سقوط نظام القذّافي الذي أنفق مبالغ كبيرة على المساعدات الاجتماعية للمواطنين، في حين فشل في استثمار عائدات قطاعي النفط والغاز على التنمية. مما خلق من ليبيا نموذجاً للدولة الريعية الغنية بالموارد، والسيئة على المستوى الإداري والمؤسسي[31].
فيما يخصّ العامل الخارجي، فمن المعروف تاريخياً بأن ليبيا التي كانت مُستعمرة من قبل إيطاليا (1911-1943)، ولم تحصل على استقلالها، إلا بعد تدخّل القوى العظمى وبالأخص بريطانيا التي أجبرت إيطاليا على الخروج من ليبيا بعد أن هزمتها في خضم معارك الحرب العالمية الثانية[32]. يجادل الأستاذ علي حميدة، بأن التجربة الاستعمارية وعلاقة المملكة السنوسية بالغرب، كانت دافعاً رئيسياً في تبنّي نظام القذّافي الشعبوي لإيديولوجيا معاداة الاستعمار ومقاومة الإمبريالية. ويفسّر هذا أيضاً، التقلّب الممستمر في العلاقات بين نظام القذّافي والدول الغربية على مدى إثنان وأربعون عاماً [33].
عبّرت الأهداف السياسية لنظام القذّافي في عقده الأول سريعاً عن الإيديولوجيا الجديدة للدولة الليبية (خليط من الشعبوية القومية الاشتراكية، ومناهضة الاستعمار والإمبريالية). وتمثّل ذلك في إغلاق القواعد الأجنبية، إعلان الإتّحاد مع مصر الناصرية، طرد بقايا الرعايا الإيطاليين واليهود ومصادرة ممتلكاتهم. على الصعيد الاقتصادي، أعادت الحكومة التفاوض حول كافة العقود المبرمة مع شركات النفط الأجنبية، كما اتّبعت سياسة لخفض الانتاج لغرض زيادة الأسعار. حاول القذّافي أيضاً استعمال عائدات النفط في نشر سياسات خارجية ثورية، كالضغط على الأنظمة العربية لدعم القضية الفلسطينية، وإرسال مساعدات مالية لحركات متمرّدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية[34].
خلق انخفاض أسعار النفط في نهاية السبعينيات من القرن العشرين أزمة لنظام القذّافي، ألحقت ضرراً كبيراً بمؤسسات الدولة. أدّى العامل الخارجي هذه المرة دوره في تحوّل إيديولوجيا الدولة من الشعبوية المعادية للاستعمار، إلى ” نمطٍ تسلّطي للنظام اختزل في عبادة شخص القذّافي”. ترافق هذا التغيّر مع مجموعة من الأحداث، أبرزها تورّط ليبيا في الحرب الأهلية التشادية سنة 1983، والدخول في مواجهة مع أمريكا توّجت بقصف جوّي أمريكي لطرابلس وبنغازي عام 1986[35].
وصل التوتّر إلى ذروته عام 1988، عندما اُتهم نظام القذّافي بتفجير طائرة أمريكية فوق مدينة لوكربي، ونتيجة لذلك فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات اقتصادية خنقت النظام وشوّهت ما تبقى من مؤسسات الدولة. ظلّت العقوبات سارية المفعول حتى تم تعليقها عام 1999 بعد أن قبل النظام مسؤوليته عن الهجمات وتعهّد بدفع التعويضات للضحايا [36].
أُغلق ملف العقوبات بالكامل عام 2003 بعد أن تخلّى نظام القذّافي عن رغبته في تطوير أسلحة الدمار الشامل، وحقّق بذلك تقارباً مع القوى الغربية. تركت العقوبات أثراً كبيراً على علاقة النظام بالمجتمع الليبي، عندما أسفرت محاولات النظام لتخفيف وطأة العقوبات التي عزلته عن العالم، في تطبيق سياسات خصخصة حذرة كمحاولة منه لتنويع الاقتصاد أُطلق عليها اسم (الانفتاح). لكن على المستوى العملي وكغيره من الأنظمة السلطوية الوراثية، تم التلاعب بسياسات تحرير الاقتصاد لإفادة مجموعة صغيرة من المقرّبين للنظام. تدريجياً، أصبحت هذه السياسات التي منحت الامتيازات لفئة صغيرة من الموالين (أبناء القذّافي، القيادات القبلية الموالية، رجال الأعمال المرتبطين بالنظام، القيادات الأمنية)؛ مصدراً لتعميق الشعور بالظلم الاجتماعي لدى الشعب الليبي. وعجّلت بالتالي من قيام اضطرابات 2011، التي لم تتردد في دعمها قوى خارجية وإقليمية لديها إرث تاريخي من العداء مع نظام القذّافي[37].
أدّى تضافر العوامل الداخلية والخارجية، إلى استمرار حالة الفشل الليبية بعد الحرب الأهلية عام 2011. في هذا الصدد يقول أول رئيس وزراء في ليبيا مابعد-القذّافي، الدكتور محمود جبريل في وصفه للوضع الليبي: ” في ليبيا، على الرغم من العديد من الانتخابات الناجحة والتي بدأت من 2012 إلى عام 2014، كان لــــــ (ضعف أو عدم وجود) دولة ليبية قوية كشرط أساسي لبناء نظام ديمقراطي في مجتمع دون دولة شعوراً وأثراً عميقاً لا زال يؤدي إلى النتائج المدمّرة التي قسّمت البلاد واستحوذت عليها في حالة من الفوضى المتصاعدة”[38].
بداية، بدت المؤسسات السياسية بعد سقوط القذّافي عاجزة عن إنجاز عملية الانتقال السياسي، وهذا بالدرجة الأولى يعود للدور الذي لعبته الأنظمة السياسية السابقة في منع قيام المؤسسات والهياكل التي من المفترض أن تلعب دور الوسيط بين الدولة والمجتمع. فالأحزاب كانت محظورة منذ عام 1952، وعدد الجمعيّات المدنية كان نادراً في حين كان كلّها مرتبط مباشرة بالنظام. وبالتالي لعبت القبيلة الدور الذي يُفترض أن يلعبه المجتمع المدني كوسيط بين الدولة والمجتمع. واكتسب هذا النوع من الروابط مزيداً من الأهمية للحصول على المنافع والامتيازات. تستهدف استراتيجية إعادة انتاج ” القبلية” التي طوّرها نظام القذافي إلى إضعاف قوة أي معارضة مدنية لحكمه.
ظهرت أعراض الفشل سريعاً على المستوى السياسي بعد انتخاب أول برلمان ديمقراطياً في ليبيا، الذي افتقر للخبرة الإدارية والاستقلالية في إصدار القرارات. أدّى تذبذب الأداء السياسي للتياريين المسيطرين على البرلمان حينها في ما يخصّ القضايا المطروحة وجهودهما في حشد النواب المستقلّين إلى المزيد من الاستقطاب السياسي، بالإضافة إلى ضغوط الميليشات المسلّحة التي اعتمدت عليها القوى السياسية إلى التالي : فوضى في إدارة الجلسات، غياب بعض النواب عن الاجتماعات البرلمانية، بالإضافة إلى مشاكل تتعلّق باختيار الحكومات الغير فعّالة، مما أدّى إلى إنهاء تعيينه والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة[39].
كما انخفضت نسبة المشاركة في انتخابات مجلس النواب الثاني عام 2014 إلى 18% بالمقارنة مع انتخابات 2012 التي وصلت فيها نسبة المشاركة إلى 64%. كذلك كان هناك 12 مقعداً شاغراً بسبب مقاطعة الأقليّات العرقية، علاوةً على مشاكل لوجستية تتعلّق بالطعون المقدّمة، وضمان سلامة الدوائر الانتخابية وتنظيمها[40].
مهّدت انتخابات 2014 الطريق لانهيار المشهد السياسي الليبي بالكامل، وذلك عندما رفض البرلمان السابق (المؤتمر الوطني العام) الاعتراف بشرعية البرلمان الجديد (مجلس النوّاب)، مما أدّى إلى انقسام إداري، سياسي، عسكري على مستوى الدولة بالكامل. وجد مجلس النوّاب معقلاً له في مدينة طبرق بالقرب من الحدود المصرية، بينما ظلّ مقر المؤتمر الوطني في طرابلس. تلقّى كلا الجسمان السياسيان دعماً من عدد من الميليشيات العسكرية المسلّحة التي لديها علاقات بالخارج، والتي رسخّت بالفعل من واقع فشل الدولة[41].
يعتبر المؤشر الأبرز على استمرار فشل الدولة الليبية، هو انتشار العدد كبير من الميليشيات المسلّحة التي تعتبر الحاكم الفعلي للبلاد اليوم. تتكون هذه الميليشيات أساساً من المجموعات المتمرّدة التي قاتلت النظام في السابق أثناء الحرب الأهلية. تمتّعت هذه الميليشيات بشرعية ثورية تحصّلت عليها أثناء الصراع مع نظام القذّافي، وبدل من أن تعمل كقوة موحّدة، تفرّقت إلى أجسام غير شرعية لا تخضع لسلسة قيادة مركزية، بل لتوجّهات قادتها الذين تختلف مصالحهم بحسب (مناطقهم، قبائلهم، أيديولوجياتهم)، أو للأطراف الخارجية التي تدعمهم. وفّر الفراغ الأمني الذي خلقته الميليشيات على حساب أجهزة أمنية وعسكرية منضبطة، بيئةً صالحةً لانتشار الجماعات الجهادية ومهرّبي البشر[42].
ويكمل نفس التقرير، ليبيّن بأن الجذور التاريخية للمليشيات تعود للنظام ذو الطابع الميليشاوي الذي أُسّس في عهد القذّافي. المبني على أساس التوازن بين القوات شبه العسكرية، المؤلفة من القبائل التي يُعتقد بولائها لشخص النظام، بالإضافة إلى عقيدة العسكرة التي زُرعت داخل المجتمع الليبي كنتاج لفلسفة النظام المتعلّقة بتشكيل ما يُعرف بـــــــــــــ” الشعب المسلّح”. ووفقاً لهذا المبدأ تم تفكيك الجيش الليبي لصالح الكتائب الأمنية التي قادها أبناء القذّافي وأقاربه لحماية النظام السياسي بدل من حماية الدولة[43].
ويحدّد طيبي غماري في كتابه (الجندي والدولة والثورات العربية، 2019)، أربعة عوائق وقفت في وجه إعادة بناء الجيش الليبي بعد الحرب الأهلية: أولاً، أدّى انهيار القوات المسلّحة وأجهزة الأمن السابقة، إضافة إلى انتشار كبير للسلاح داخل المدن وبين القبائل، لاختفاء قوات الأمن العامة خوفاً من عمليات الانتقام. ثانياً، سبّبَ التنافس بين قادة الميليشات الذين تحصّلو على امتيازات كبيرة بالتزامن مع فشل القيادة السياسية في وضع برنامج لاستيعاب المسلّحين، إلى عدم تسليم الميليشات أسلحتها للدولة. ثالثاً، أدّى استمرار الأعمال الانتقامية من قبل الميليشيات في عدم الاستفادة من خبرات المنتسبين السابقين للمؤسسات الأمنية والعسكرية. رابعاً، كان لارتباط قادة الميليشيات بأجندة خارجية دوراً حاسماً في إعاقة مشروع إعادة بناء جيش وطني في ليبيا[44].
ساعدت الثروة النفطية الليبية نظام القذّافي في تعزيز سلطته على الدولة، وعلى أثر ذلك صُمّم الاقتصاد الليبي بطريقة تحفظ سلطة النظام بدلاً من تحقيق الكفاءة. بدا ذلك في شكل سياسات غير عقلانية مثل: إهمال تطوير القطاع النفطي، تضخّم في القطاع التعليمي الذي يخرّج الألاف من الطلاّب الذين لا علاقة لهم بسوق العمال، إنفاق كبير على الدعم الاجتماعي المقّدم أساساً لأغراض سياسة مفادها إسكات المواطنين عن المطالبة بحقوق سياسية. والنتيجة اقتصاد مشوّه يمتاز بقطاع عام متضخّم وغير فعّال مع فرص ضئيلة للغاية في الاستثمار والتنمية في القطاعات غير النفطية[45].
أدّى عدم إلتزام النخب الليبية التي وصلت إلى السلطة بعد سقوط النظام بآلية واضحة حول تقسيم الموارد، من إهدار فرصة إنشاء عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع مما ساعد في استمرار حالة الفشل على الصعيد الاقتصادي. ولأجل إضفاء مزيد من الشرعية عمدت النخب الليبية الجديدة إلى سياسات تهدف لشراء ولاء المواطنين والميليشيات المسلّحة وذلك لغرض الحفاظ على السلطة، بإجراءات من قبيل: مضاعفة الرواتب الحكومية، زيادة الدعم المقدّم للسلع الاستهلاكية، وإنشاء مؤسسات مستقلّة لترضية الميليشيات كهيئة شؤون المحاربين ووزارة الشهداء والجرحى للتغطية على صفقات الفساد[46].
ويعزوا Jason park)) ذلك بشكل رئيسي إلى أن قادة الميليشيات باعتبارهم المسيّطرين الفعليين على قرارات السياسيين، هم المستفيد الأكبر من استمرار الركود الهيكلي للاقتصاد الليبي. يمارس قادة الميليشيات ضغوطاً مستمرة على الطبقة السياسية حتى لا تتدخّل في نشاطاتها الاقتصادية القائمة على (ابتزاز الدولة، ومضاربات العملة، الاعتمادات المصرفية، بالإضافة إلى تهريب الوقود)[47].
وأخيراً، بإلقاء الضوء على دور التدخّل الخارجي في استمرار حالة الفشل، يجادل (Mattia Tolado) بأن قرار مجلس الأمن رقم 1973 والذي فوّض حلف الناتو للقيام بحظر جوي وضربات جوّية ضد قوات القذّافي، بحجّة حماية المدنيين الليبيين. كان الهدف الأساسي منه تصفية الحسابات السياسية مع نظام القذّافي، على الرغم من أن ظاهره كان إنساني. ويستشهد بمقولة لدبلوماسي أوروبي كبير بعد عام من التدخّل في ليبيا ” من المستحيل حماية السكان المدنيين دون محاربة النظام الذي يعرضهم للخطر”، وهذا ما يفسّر تحوّل العملية من حماية المدنيين إلى إسقاط النظام بالقوة[48].
ويشير رئيس الوزراء الأول بعد سقوط القذّافي (محمود جبريل)، بأن التدخّل الدولي أحدث فراغاً في السلطة استفادت منه الميليشيات المسلّحة. كيف حدث ذلك؟ أولاً، نتيجة الخطأ الفادح الذي وقع فيه المجتمع الدولي عندما اعتقد بأن أول سلطة سياسة ليبية نشأت بعد انهيار النظام السابق (المجلس الوطني الانتقالي)، لديها القدرة على إعادة الأمن والاستقرار وإن كل ما تحتاج إليه هو الدعم الفنّي فقط.
أما التفسير الثاني، فيُعزى إلى أجندة سياسية دولية تعود لرغبة الفاعلين الدوليين في مساعدة وصول حركات الإسلام السياسي المعتدل للحكم بهدف احتواء الحركات الإسلامية المتطرّفة، ويدعم حجّته بموقف القوى الدولية من الانتخابات البرلمانية في 2012 التي لم تلقَ ترحيباً حاراً بسبب هزيمة القوى التي راهن عليها اللاعبون الدولييون حسب قوله[49].
يؤكد كلام جبريل، عودة القضية المتعلّقة بالإسلام السياسي بعد الانقلاب المصري 2013. الذي جعل من ليبيا تدريجياً مسرحاً للصراع الإقليمي بين محور (مصر، الإمارات، السعودية) الداعم للقائد العسكري الليبي خليفة حفتر، في مقابل محور (تركيا، قطر) المتحالف مع معسكر الإخوان المسلمين المضاد له[50]، مما رسّخ من الانقسام وفتح الباب أمام تصعيدٍ أكبر للحرب في ليبيا.
أفشل تضارب المصالح وانقسام القوى الفاعلة في الملف الليبي، كافة جهود السلام التي تقودها الأمم المتّحدة لحل الأزمة الليبية. لعل أبرز تلك الجهود هو اتفاق السلام الليبي الذي عُقد عام 2015 في مدينة الصخيرات المغربية. والذي أطلق فيه المجتمع الدولي مجموعة لقاءات بين الفرقاء الليبيين بقيادة الأمم المتّحدة، أسفرت عن حكومة ومجلس رئاسي موحّد.
انعكست الانقسامات بين الأطراف الخارجية على نجاح اتفاق السلام في كونها: أولاً، عرقلت العقوبات التي من المفترض تطبيقها على منتهكي الاتفاق بسبب تفضيلها لأحد أطراف النزاع على الآخر. ثانياً، على الرغم من أن كل الدول المنخرطة في الملف الليبي تدعم اتفاق السلام في تصريحات ممثليها الرسميين، لكن على أرض الواقع استمرت في دعم حلفائها بالسلاح والمال مما أطال أمد الصراع الذي من غير المتوقّع نهايته قريباً[51].
الخاتمة: نستخلص مما سبق، أن الخلل البنيوي التاريخي هو السبب الرئيسي في استمرار فشل الدولة الليبية الحالي. وذلك نظراً لوجود العديد من العوامل التي تفضي إلى عدم بناء دولة قوية، يضاف إلى ذلك دور العامل الخارجي الذي كان حاسماً في إسقاط القذّافي والدولة التي ارتبطت بشخصه معاً. كما أدّى غياب قوى سياسية قادرة على قيادة عملية الانتقال بشكل فعّال، في ظل عدم اهتمام الأطراف الدولية بدعهما إلى إطالة أمد النزاع وبالتالي إلى مزيدٍ من الفوضى. كان لفشل المجتمع الدولي في معالجة التحدّيات التي تعاني منها الدولة الليبية، دوراً في استمرار المؤسسات الحكومية الفاسدة والمنقسمة.
إلا أنه وجب التنويه، بأن تمزّق نظام الدولة الحالي يحتوي في داخله على عددٍ من الاستمراريات التي تشكّل نمطاً جوهرياً طويل الأمد في العلاقة بين المجتمع والدولة في ليبيا. بدايةً، اُستخدمت المحسوبية من قبل جميع القيادات الليبية منذ تأسيس الدولة الحديثة إلى الآن كوسيلة لتحييد قوى المعارضة والحفاظ على السلطة في أيدي قلّة معيّنة. كما تم توظيف الثروات النفطية في تعزيز استقرار الأنظمة، على الرغم من أن سلوك الفساد والسعي وراء الريع الذي عزّزه وجود الموارد قد يكون سبباً قوياً لفشل الدولة كما كشفت الأحداث التي تلت سقوط نظام القذّافي. من ناحية أخرى، وفي ظل غياب دولة المواطنة، لا تزال الروابط المجتمعية قائمة على نمط بدائي للعلاقات كالعائلة والقبيلة. يعوق هذا النوع من الروابط إقامة مجتمع مدني وسياسي قوي، علاوةً على هيكل حديث ومتماسك للدولة.
الهوامش: [1] أدهم صولي، رايموند هينبوش، “الدولة العربية مقاربة سوسيولوجية تاريخية”،تبيّن، المجلد 10، العدد 37 (2021)، ص 15.
[2] See Charles Tilly, Bringing the State Back In Edited by Peter Evans, Dietrich Rueschemeyer, and Theda Skocpol (Cambridge: Cambridge University Press, 1985), pp. 169–191.
[3] صولي، هينبوش، الدولة العربية، المرجع السابق الذكر، ص 16.
[4] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[5] Adham Saouli, “Back to the Future: the Arab Uprisings and State (re)Formation in the Arab World,” Democratization22, no. 2, pp. 318-319.
[6] Natasha Ezrow And Erica Frantz, “Revisiting The Concept Of The Failed State: Bringing The State Back In,” Third World Quarterly 34, No. 8 (2013), P. 1323.
[7] Charles T. Call, “The Fallacy of the ‘Failed State’,” Third World Quarterly 29, no. 8 (2008), pp. 1492-1493.
[8] Stein Sundstøl Eriksen, “’State Failure’ in Theory and Practice: the İdea of the State and the Contradictions of State Formation,” Review of International Studies 37, no. 1 (January 2011), p. 230.
[9] Robert I. Rotberg, “The new nature of Nation-state failure,” The Washington quarterly 25, no. 3 (Summer 2002), p. 87.
[10] See William I. Zartman, Collapsed States: The Disintegration and Restoration of Legitimate Authority (Boulder, co.: Lynne Rienner, 1995), pp. 5-8.
[11] Robert I. Rotberg, “Failed States in a World of Terror,” Foreign Affairs 81, no. 4 (2002), p. 131.
[12] STEIN, “state failure”, p. 231.
[13] Shahida Aman and Shagufta Aman, “Understanding ‘Failed States’ and ‘State Failure’: Discourses and Limitations,” Pakistan Horizon 68, no. 2 (April 2015), p. 99.
[14] STEIN, “state failure”, p. 233.
[15] Ibid, p. 234.
[16] Rotberg, “The new”, p. 93.
[17] Rotberg, “Failed”, pp. 131-133.
[18] See Edward Newman, “failed states and international order: Constructing a Post-Westphalian World,” Contemporary Security Policy30, no. 3 (November 2009), pp. 421-443.
[19] Shahida Aman and Shagufta Aman, “Understanding”, pp. 95-96.
[20] See Alexandros Yannis, ‘State Collapse and its implications for Peacebuilding and Reconstruction’, Development and Chang e33, No. 5 (November 2002), pp. 817-835.
[21] See Jason Brownlee, Tarek Masoud, and Andrew Reynolds, “Why the Modest Harvest?”, Journal of Democracy 24, no. 4(October 2013), pp. 29-44.
[22] رايموند هينبوش،”مقاربة في علم الاجتماع التاريخي لفهم التباين في مرحلة ما بعد الثورات في البلدان العربية”، عمران، المجلد 6، العدد 23(شتاء 2018)، ص 34.
[23] المرجع نفسه، ص 37.
[24] The Fund for Peace, “Libya Country Dashboard,” Fragile States Index, 2021, https://urlz.fr/nmBs. (Accessed April 22, 2022).
[25] Anthony H. Cordesman, “The Greater Middle East: From the “Arab Spring” to the “Axis of Failed States,” Center for Strategic and International Studies (CSIS) (2020), p.12.
[26] Canan Atilgan, Veronika Ertl and Simon Engelkes, “Failing State: Libya as a Supraregional Security Threat,” Konrad Adenauer Stiftung (2017), pp. 67-72.
[27] نزيه ن. الأيوبي، ” تضخيم الدولة العربية السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط ” ،ترجمة أمجد حسين، بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية،2010، ص 36 .
[28] Wiesław Lizak, “Libya – Road To Dysfunctionality,” Politeja 56, (2018), p. 28.
[29] Dirk vandewalle, Libya since Independence: Oil and state building , London: Cornell University, 1998, pp. 17-38.
[30] Wiesław, “Libya”, p. 30.
[31] Rosan, “Libya’s”, pp. 12-14.
[32] Ibid, pp. 9-10.أ
[33] علي عبد اللطيف أحميدة،” دولة ما بعد الاستعمار والتحوّلات الاجتماعية في ليبيا”، تبيّن، المجلد 1، العدد ،2012، ص 174.
[34] Matteo Capasso, “The War And The Economy: The Gradual Destruction Of Libya,” Review Of African Political Economy 47, No. 166 (August 2020), P.5.
[35]علي أحميدة، مصدر سبق ذكره، 176.
[36] Wiesław, “Libya”, p.31.
[37] Rosan, “Libya’s”, p.14.
[38] Mahmoud Gebril, “Libya: will stability and order be restored? Why things got out of control,” Contemporary Arab Affairs 9, no. 3 (August 2016), p. 347.
[39] Ewa Szczepankiewicz-Rudzka, “Patterns Of Libya’s Instability In The Aftermath Of The Collapse Of Gaddafi’s Regime,” Politeja, No. 42 (2016), Pp. 229-230.
[40] Ibid, p.230.
[41] Rasmus Alenius Boserup and Luis Martinez, “STATE COLLAPSE IN LIBYA,” Danish Institute for International Studies (2018), pp. 23-24.
[42] Ibid, p.24.
[43] Ibid, pp. 25-26.
[44]طيبي غماري، الجندي والدولة والثورات العربية (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019)، 109-110.
[45] Christopher S. Chivvis, Jeffrey Martini, Libya after Qaddafi Lessons and Implications for the Future (Santa Monica, CA: RAND Corporation, 2014), p.61.
[46] Jason Pack, “It’s the Economy Stupid: How Libya’s Civil War Is Rooted in Its Economic Structures,” Istituto Affari Internazionali (IAI) (2019), p.11.
[47] Ibid, p.12.
[48] Mattia Tolado, Libya’s transition and the weight of the past, in polarisations politiques ET CONFESSIONNNELLES La place de I’islam dans les ‘transition’ arabes, edited by ANNA BOZZO et PIEERE-JEAN LUIZARD( Roma: TrE-Press, 2015), p.86 .
[49] Gebril, “Libya”, pp. 348-349.
[50] Tolado, “Libya’s transition”, p.77.
[51] Rasmus Alenius Boserup and Luis Martinez, “STATE”, pp. 26-28.