قراءة استراتيجية للواقع الأمني في لـيبيا
تمهيد
إن الموقع الاستراتيجي لليبيا يجعلها مركزا لمجموعة من التحديات الأمنية والجيوسياسية، فتاريخياً شهدت ليبيا حالات عديدة من الأزمات والاضطرابات أثرت على الأمن والاستقرار الداخلي، وكذلك الأمن الإقليمي والدولي. وعقب ثورة فبراير 2011، تفجرت مجموعة من الصراعات السياسية والعسكرية، وتشكلت جماعات مسلحة متنوعة تتنافس على السلطة والموارد، ونتج عن ذلك انقسام في السلطة السياسية ونشوب صراعات مسلحة راح ضحيتها الآلاف من الليبيين، بالذات من شريحة الشباب. وتعتبر العوامل الجغرافية من أبرز التحديات التي واجهت الدولة، وتمثلت في الحدود المترامية الأطراف، والصحراء الشاسعة الممتدة، ما نتج عنها نشاط في الجريمة المنظمة وتهريب الأسلحة والمهاجرين غير الشرعيين. وما عقد المشهد وفاقم المشكلة الأمنية، هو التدخلات الخارجية والدعم الذي قُدم للأطراف المتنازعة داخل ليبيا.
عند الحديث عن الحالة الأمنية للدولة الليبية لا بد من فهم الخارطة الأمنية للدولة، ولأجل ذلك سيتم تقسيم ليبيا إلى ثلاثة مناطق أمنية رئيسية: ـ
أولا: المنطقة الغربية
تبرز أهمية المنطقة الغربية لعدة اعتبارات هامة، فهي من ناحية تضم عاصمة البلاد مركز السلطة والقرار السياسي، ومن ناحية أخرى تضم البنية التحتية للدولة والمرافق الاقتصادية والمالية الحيوية، وأكبر الموانئ الجوية والبحرية. ومن ثم، من يسيطر على العاصمة بطبيعة الحال هو اللاعب الأبرز في المعادلة الليبية، من الناحيتين المحلية والدولية. هذه الأهمية جعلت من السيطرة على العاصمة، أو توسيع النفوذ فيها على الأقل، مسألة استراتيجية للأطراف المتصارعة سياسياً وعسكرياً.
ونتج عن هذا الصراع تقسيم العاصمة والمؤسسات السيادية للدولة إلى مناطق نفوذ ارتبطت بالشخصية القيادية التي تسيطر على التشكيل المسلح الذي يفرض نفوذه على تلك المنطقة أو المؤسسة السيادية. وأنتجت هذه الظاهرة تشوه خطير في البنية الاقتصادية المجتمعية للدولة، بالذات مع وجود حالة من الفساد غير مسبوقة. فقد ظهرت طبقة فاحشة الثراء مرتبطة ارتباط عضوي بالبندقية، وتتحكم بمفاصل الدولة عبر شبكة معقدة من التحالفات التي شملت كل الأطراف النفعية. هذه الحالة تزامنت مع غياب الشخصية السياسية الوطنية التي تحمل رؤية تساهم في بناء مؤسسات سيادية، كالدفاع والأمن والدبلوماسية. فطيلة الفترة الممتدة من 2011 إلى 2023، لم تنجح المنطقة الغربية “المركز” في إنتاج مؤسسة عسكرية أو أمنية احترافية، تدعم فكرة بناء الدولة. بل على العكس من ذلك، فكل السياسات التي اتبعها المسؤولون الحكوميون الذي تعاقبوا على السلطة في غرب البلاد ترتب عليها توسع وزيادة في نفوذ التشكيلات المسلحة التي سلبت الاختصاصات العسكرية والأمنية للدولة، بمعناها المؤسسي الاحترافي.
إن شرعنة هذه التشكيلات وجعل بعضها مرتبطاً إرتباطا عضوياً بأعلى مؤسسة سيادية بالدولة ” المجلس الرئاسي”، أدى لخلل في ميزان القوى والتأثير، والذي أنتج بدوره خللاً أيضا في سلسلة القيادة والسيطرة وتآكل الشرعية. فهذه التشكيلات تتبع المؤسسة الرسمية السيادية المعترف بها دولياً، لكنها لا تأتمر بإمرتها ولا تخضع لها ولا يمكنها محاسبتها. وهذا قد يعرض المسؤولين السياسيين للمساءلة القانونية في مراحل لاحقة، سواء أمام القضاء المحلي أو الدولي، بسبب ارتكاب هذه التشكيلات المسلحة، التي من المفترض أن تكون تابعة لهم وتحت إشرافهم وهم من أوجدوا المسوغ القانوني لها ومنحوها الشرعية، جرائم قد يرتقي بعضها لمستوى الجرائم ضد الإنسانية ، كالقتل خارج القانون والتعذيب والإخفاء القسري.
ثانيا: المنطقة الشرقية
تعتبر منطقة شرق ليبيا منطقة مهمة سياسياً وأمنياً بالنسبة لليبيا، فقد لعبت أدواراً سياسية هامة في تاريخ الدولة الحديث. فهي كانت شرارة ثورة فبراير 2011، وكان لها الدور الأبرز في عملية الكرامة التي كان من نتائجها الانقسام السياسي العمودي لمؤسسات الدولة. فبعد انطلاق عملية الكرامة سنة 2014، تكونت قوات عسكرية تابعة للمشير “خليفة حفتر”، ثم منحها مجلس النواب الشرعية، وأنشأت ما عرف بـ” القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية “، بعد أن كانت عملية تمرد على السلطة الشرعية الممثلة في المؤتمر الوطني العام والحكومة الليبية ، بذريعة محاربة الإرهاب، ما شكل نقطة تحول في الصراع السياسي في ليبيا ليصبح صراعاً مسلحاً. وقد نجحت القيادة العامة التابعة للبرلمان في بناء قوات تتوفر على سلسلة واضحة للقيادة والسيطرة، ما أتاح لها التطور البنيوي. كذلك توفر لها الدعم الدولي من الدول التي تحالفت معها على مستوى التدريب والتسليح والدعم المباشر في العمليات القتالية.
ولكن ظلت العقيدة العسكرية لهذه القوات تعاني خلل كبير بالنظر إلى سلوك هذه القوات على مستوى الجنود والقادة، فبات يلاحظ بجلاء ولاء هذه القوات لشخص القائد العام وأبنائه، الذين أصبحوا على رأس أكبر قوة عسكرية في شرق ليبيا، وربما في كل ليبيا. في ظل هذه البيئة بدأت تتبلور ملامح مؤسسة أمنية تشتت في تبعيتها ما بين القيادة العامة كالأمن الداخلي والدعم المركزي في مرحلة ما، ووزارة الداخلية. كذلك كان البعد القبلي حاضراً كأحد التحديات الحقيقية التي واجهت المؤسسة الأمنية، ما حرم المؤسسة من القيادة الكفؤة القادرة على التعامل بمهنية واحترافية مع القضايا والأزمات الأمنية.
وجديرا بالذكرا فأن البعد القبلي كان حاضراً أيضاً حتى على المستوى السياسي وتقاسم السلطة والمناصب، وهذا ما يشكل تحدي حقيقي لأي استراتيجية تهدف لبناء استقرار قابل للاستدامة. كما تحوي المنطقة الشرقية من ليبيا حقول وموانئ نفطية تساهم بشكل كبير في الإنتاج النفطي الليبي، ما يكسبها أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة.
ثالثا: المنطقة الجنوبية
وهي بطن ليبيا الرخوة، فتعتبر منطقة الجنوب الليبي في معظمها صحراء واسعة، وتشكل تحديات وفرص متعددة لليبيا وللمنطقة بأسرها. وهي موجودة على الخارطة الاقتصادية والأمنية للدولة، باحتوائها على مخزون نفطي ضخم، كذلك تعتبر خزان مهم من المياه الجوفية والموارد الطبيعية منها الحديد. ولكن أُهملت هذه المنطقة من قبل الحكومات المتعاقبة في ليبيا لفترات طويلة، ما نتج عنه تشوه خطير في البنية الأمنية وعجز كبير عن مواجهة التغير الديموغرافي وسيل الهجرة غير الشرعية، فضلا عن جرائم تجارة المخدرات وتهريب الوقود.
وفي الآونة الأخيرة شهدت منطقة الجنوب سيطرة كاملة للقوات التابعة للقيادة العامة التابعة المشير حفتر. كما يتحدث سكان الجنوب عن تحسن ملحوظ في الحالة الأمنية وانخفاض في معدلات الجريمة التي كانت بمعدلات كبيرة جداً.
ولقد تزامن الوجود العسكري التابع لقوات الكرامة مع مديرية أمن نشطة، كان لها إسهام بارز في إعادة ضبط الأمن بمدينة سبها وهي عاصمة الجنوب. أما باقي مناطق الجنوب فلكل منها خصوصيتها الأمنية، فبعض المناطق تشهد تمركز لفصائل معارضة مسلحة إفريقية، وبعضها يخضع فيها السلم الأهلي للمنظومة القبلية، وهي تشهد استقرار أمني إلى حد كبير.
وفي ذات السياق فأن ، هناك تواجد لمرتزقة الفاغنر لهم سيطرة علي بعض القواعد الجوية وعلي راسها قاعدة الجفرة الاستراتيجية إضافة الي قاعدتي تمنهنت وبراك الشاطيء ، ويرتكز نشاطهم واتمركزهم حول مصادر وأبار الغاز في الجنوب الغربي الليبي خاصة ، ولا يستطيع أحد ان يقدر العدد الحقيقي لهم إضافة.
كذلك هناك تواجد لفصائل من المعارضة والمرتزقة التشادية و السودانية تنتشر علي طول الجنوب الغربي والشرقي ، تورطت هذه الفصائل في الصراع المسلح من قبل طرفي النزاع ، وكذلك في قضايا الهجرة الغير قانونية والتهريب والسطو المسلح ، ( نشر المركز ورقة تفصيليه منذ مدة قريبة تحدث فيها عن المرتزقة التشادية من حيث التواجد والعدة والعتاد ).
خلاصة القول، تشهد ليبيا حالة من السيولة الأمنية وغياب السيطرة المركزية للسلطة على كامل البلاد في ظل وجود حكومتين، وفقدان الدولة لمهمتها الأساسية وهي احتكار العنف في ظل تفشي ظاهرة التشكيلات المسلحة دون الدولة، وحرمانها من استغلال أمثل لمواردها النفطية وغيرها وما تدره من عوائد، ولا سبيل لحل كل هذه الإشكاليات دون حكومة موحدة قوية تفرض سيطرتها على كامل ليبيا بمناطقها الاستراتيجية الثلاثة.