قراءة للدور المصري في ليبيا
وجه الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، في 13 سبتمبر 2023، القوات المسلحة المصرية خلال اجتماع مع وزير الدفاع ورئيس أركان حرب الجيش المصري، بتقديم كافة أشكال الدعم الإنساني من أطقم إغاثة ومعدات إنقاذ ومعسكرات إيواء للمتضررين جراء الفيضانات الكارثية بمدينة درنة التي أُعلنت من قبل السلطات في ليبيا “مدينةً منكوبة”.
لقد تم استعراض معدات الدعم والإغاثة والمساعدات الإنسانية المتجهه إلى ليبيا في عرض عسكري، لا يحدث عادة عند إرسال المساعدات الطارئة في حالات الكوارث، وقد تحرك جزء من هذه القوة في موكب كبير من الاليات الثقيلة والشاحنات والأليات العسكرية التي دخلت ليبيا عبر البر.
وفي خطوة أخري لافتة، قرر ” السيسي” إرسال حاملة الطائرات “ميسترال” إلى سواحل ليبيا، للعمل كمستشفى ميداني وتقديم خدمات الإغاثة عقب الكارثة ، وبعدها بأقل من أسبوع تحركت القطعة البحرية “جمال عبدالناصر” من مناطق عملها في البحر الأحمر، لتستقر في مدينة طبرق وتعمل كمستشفي ميداني كما صرح في حينه. وفي ذات الوقت صدر قرار بمنح تعويضات لعائلات المصريين الذين قضوا في ليبيا بسبب كارثة درنة ، والذين بلغ عددهم حتى الآن، بحسب الإحصائيات الصادرة عن جهات رسمية بليبيا، 145 قتيل. وفي وقت سابق ، في 12 سبتمبر، زار رئيس أركان حرب الجيش المصري الفريق ” أسامة عسكر”، ليبيا واستقبله قائد قوات الشرق الليبي المشير ” خليفة حفتر”، كما أعلنت الرئاسة المصرية الحداد ثلاثة أيام.
تساؤلات عديدة
لقد أثارت هذه الإجراءات مجموعة من التساؤلات، أهمها: ما هي الأبعاد والآثار المترتبة لهذه القرارات على ليبيا ؟ خاصة وأن مصر الدولة الوحيدة التي جعلت مساعداتها تُقدم من خلال الجيش، دون غيرها من أي مؤسسة مدنية، كهيئة السلامة المدنية أو فرق البحث والإنقاذ ، أسوةً بباقي الدول التي قدمت مساعدات بهذا الشأن.
إن القوة التي أدخلها الجيش المصري إلى ليبيا، والتي تحمل العلم المصري، قوامها أكثر من 3000 جندي وعدد من الضباط تجاوز الـ 100 ، وهي تعادل في العرف العسكري القوة العمومية لـتشكيل لواء قتالي إضافة الي فرق الإغاثة والإنقاذ والغواصين. وقد تمركز جزء من هذه القوات بثانوية ” مرتوبة ” الجوية التي تقع جنوب درنة بمسافة 27 كلم، وجزء آخر بمعسكر في ” القبة ” التي تقع غرب درنة بمسافة تقريبا 50 كلم ، مع دخول فرق للإنقاذ والغواصين إلى داخل المدينة، للمساعدة في أعمال الإغاثة والإنقاذ.
إن إرسال كل هذه القوة ، مصحوبة بإمداد بحري متمثل في حاملة الطائرات ” ميسترال” إلى سواحل درنة، والبارجة البحرية “جمال عبدالناصر” الي سواحل طبرق، أمر لا يجب تجاهل أبعاده.
كما أن الإحصائيات التي تقدر مقتل 145 مصرياً جراء الكارثة ، أثارت أيضا عدة تساؤلات ، وهي : كيف تم التعرف علي جثت الضحايا بهذه السرعة ؟ ومن قام بذلك ؟ ومتى ؟ إذا أخذنا في الاعتبار أن الفيضان قد جرف كل شيء، وتغيرت معالم المنطقة المنكوبة ، علما بإن المدة الزمنية بين التعرف علي الضحايا ونقلهم الي مستشفي طبرق لإنهاء إجراءات ترحيلهم الاي الأراضي المصرية لم يستغرق اكثر من 48 ساعة من بداية الكارثة ، وكذلك السلطات الليبية كانت تواجه صعوبات بالغة في التعرف على الضحايا، ما دفع جهاز البحث الجنائي إلى أخذ عينات DNA من الضحايا، وتأذن النيابة العامة فورًا بدفنهم.
لا يمكن قراءة وتحليل المشهد دون الأخذ في الاعتبار أن الرئيس “عبد الفتاح السيسي” قد دشن قاعدة بحرية عسكرية في 2021، وهي قاعدة “3 يوليو _ سيدي براني “، التي تعد من أحدث وأكبر القواعد البحرية في المنطقة، حيث تقام على مساحة تتجاوز الــ 10 مليون متر مربع على البحر المتوسط ، وتقع في منطقة ” جرجوب” على الساحل الشمالي الغربي لمصر عند بلدة ” النجيلة ” على مسافة 70 كم غرب
مرسى مطروح ، والتي تمثل إضافة لمصر على الاتجاه الاستراتيجي الغربي، وكان الافتتاح بحضور ولي عهد أبوظبي آنذاك ” محمد بن زايد “. وذكرت مصادر ” الجزيرة نت” في حينه، بأن التحركات العسكرية الإماراتية قرب الحدود الليبية المصرية أثارت تسأولات حول أهداف أبوظبي من نقلها معدات دفاعية ومركبات عسكرية الي قاعدة ” سيدي براني”، بالقرب من الحدود الليبية ، وقد كشف نفس المصدر عن تفكيك دولة الإمارات قاعدتها العسكرية
في إريتريا، المعروفة بقاعدة “عصب “، ونقل كافة منشآتها وآلياتها العسكرية، من ثكنات عسكرية ومنظومات باتريوت وطائرات حربية ، إلي جزيرة ميون في اليمن وقاعدة سيدي براني المصرية.
و كان قبلها قد افتتح الرئيس ” السيسي”، في يوليو 2017، قاعدة “محمد نجيب” العسكرية، والتي تعتبر أكبر قاعدة في إفريقيا والشرق الأوسط، في منطقة الحمام بمرسى مطروح ، وبالقرب من قاعدة سيدي براني سابقة الذكر والتي تبعد عن الحدود الليبية 100 كلم ، وقد كان على رأس الذين حضروا تدشين هذه القاعدة ” محمد بن زايد ” والمشير “خليفة حفتر”.
وهنا يثار تساؤل مهم ، ما هي المخاطر التي قد تواجه الامن القومي الليبي نتيجةً لهذا التوجه من السلطة الحاكمة في مصر، والذي دفعها لبناء هذه القواعد العسكرية الضخمة على الحدود مع ليبيا ؟ و في ظل تعزيز الإمارات لوجودها العسكري قرب الحدود الليبية المصرية عبر هذه القواعد الاستراتيجية.
مهددات الأمن القومي المصري الخارجية
إن التهديدات التي واجهت مصر عبر تاريخها غالباً ما كانت تأتيها عبر حدودها الشرقية. فقد واجهت عبر هذه الحدود غزوات وحروب، آخرها مع ” الكيان الصهيوني”، التي من المفترض أن تكون مصدر التهديد الاستراتيجي الحقيقي لمصر، ولذلك كانت مصر تاريخياً تتجه نحو بلاد الشام حينما كانت تشعر بالمخاطر القادمة من الشرق. وكانت آخر محاولة مصرية للتوسع شرقًا حملة إبراهيم باشا عام 1831، التي أدت إلى سيطرة مصر على كامل الشام ، ثم توجه إلى الأناضول وحقق انتصارات كبيرة على القوات العثمانية في معارك بيلان وقونية ، ووصلت القوات المصرية الى وسط تركيا الحالية. أما غربًا فقد لعبت الصحراء المترامية الأطراف دور الحاجز الطبيعي، وبالتالي قلما تعرضت مصر للغزو أو تهديد لأمنها القومي من الغرب.
في هذا السياق ، يقول ” محمد حسنين هيكل ” الصحفي المصري والمقرب من السلطة في عهدي الرئيسين السابقين ” جمال عبد الناصر” و” أنور السادات “، أن السادات حاول أن يجعل من صفقة الأسلحة التي عقدتها ليبيا مع الاتحاد السوفييتي عام 1975، ذريعةً لغزو ليبيا عسكريًا عام 1977. وفي عام 1980، صدر كتاب بعنوان ” سرقة واحة مصرية ” للكاتب المصري “محسن محمد”، حاول فيه المؤلف جاهدًا أن يثبت أحقية مصر بواحة الجغبوب الليبية ، إلا أن كل ما استعرضه من جهود للدبلوماسية المصرية انتهى في الصفحات الأخيرة من كتابه إلى الإقرار بأن الأمم المتحدة أسقطت إدعاءات مصر بالحق في واحة الجغبوب. وقد صرحت خبيرة الحدود ” هايدي فاروق “، لصحيفة الوطن المصرية عام 2015، بأن واحة الجغبوب الغنية بالنفط هي واحة مصرية ، وقد حان الوقت لاسترجاعها من ليبيا، وزعمت أنها نجحت بتكليف من القيادة
السياسية في عهد الرئيس “حسني مبارك ” من العثور على خارطة جغرافية تُظهر بوضوح وقوع كامل واحة الجغبوب في العمق المصري ، وأدعت أن الحدود المصرية الغربية تمتد حتى ما يقرب من 40 كيلومتر شرقي واحة “جالو”، وأن ” الجغبوب” مصرية، وفق قولها. وأضافت الخبيرة المصرية أن الرئيس ” السادات ” كان مشغولاً بهذا الملف بشدة، ففي عام 1977 قام بتدمير القاعدة العسكرية الليبية في الجغبوب ، وهدّد باستعادة كامل الواحة، وفقًا لتصريحاتها.
وليس ببعيد فقد أثارت باحثة مصرية أمريكية ، تُدعى ” إيمان غنيم”، هذا الموضوع بحديثها عن نهر الكفرة خلال ندوة بعنوان “مصر تستطيع” قائلةً إن دلتا عظيمة مغطاة بالرمال تستخدمه ليبيا ، ومصر لم تلتفت إليه رغم حقها فيه ، وأن هذا النهر سيغطي حاجة مصر من الشرب والزراعة لأكثر من 150 عامًا، مشددة على ضرورة استفادة مصر من خزان المياه رغم وجوده داخل الحدود الليبية.
وتساءلت صحيفة الأهالي عام 2016، عن أسباب عدم مطالبة الحكومة المصرية باستعادة واحة الجغبوب، مضيفةً في مقال مطول، أنه يحق لمصر أن تطالب بإعادة نحو 64 ألف كم مربع من الصحراء المصرية، تشمل واحتي الجغبوب والكفرة وميناء البردي المصري غرب السلوم، والتي تقع كلها في ليبيا حاليًا.
وتقدم محامي مصري يدعى ” علي أيوب”، بدعوى قضائية إلى محكمة القضاء الإداري، يطالب فيها بضم واحة الجغبوب إلى الأراضي المصرية. ووفقا للوثائق التاريخية فإن قضية واحة ” الجغبوب” محسومة منذ عام 1926، باتفاق بين الحكومتين المصرية والإيطالية في موضوع ترسيم الحدود.
خلاصة القول
هناك حاجة ماسة لفهم عميق وقراءة استراتيجية للبعد العسكري في السياسة الخارجية المصرية في عهد السيسي تجاه ليبيا. فعند تحليل المخاطر الناتجة عن التوجه العسكري الاستراتيجي للنظام المصري، وما يفرضه من تواجد عسكري على الحدود الليبية وداخلها، في ظل عدم ممانعة من قوات الشرق ، بل أن هناك ترحيب بذلك، بدليل حضور المشير ” خليفة حفتر” تدشين قاعدة ” محمد نجيب”، هو تهديد حقيقي للأمن القومي الليبي، والذي يتمثل في:
- التهديد العسكري المباشر:هذه القواعد هي تهديد للأمن القومي الليبي، حيث تجعل النظام المصري قادر وجاهز للتدخل العسكري في ليبيا تحت أي ذريعة، خاصة في ظل التداخل الديموغرافي بين البلدين، كذلك كون الجالية المصرية في ليبيا تعتبر الأكبر على الإطلاق.
- التهديد السياسي: قد تستخدم القيادة السياسية في مصر قواعدها العسكرية الجديدة لممارسة النفوذ السياسي على ليبيا، مثل دعم الانقلابات والتمرد على السلطة السياسية الشرعية ، كما حدث سابق، بما يخدم مصالح النظام المصري والتي تتعارض مع المصالح العليا للدولة الليبية.
- التهديد البيئي: قد تؤدي عمليات التدريب العسكري في القاعدة إلى تلوث البيئة في المنطقة المجاورة، بالإضافة إلى مخاطر التلوث النووي من وجود محطة الضبعة للطاقة النووية ، المزعم إنشاءها بالقرب من الحدود الليبية.
أخيراً، إن بناء مثل هذه القواعد الضخمة قد يتسبب في حالة من عدم الاستقرار السياسي والعسكري في المنطقة، مما قد يؤدي إلى تصاعد التوترات الأمنية ويجعل المنطقة أكثر عرضة للصراعات.