ليبيا بين الانهيار القضائي والإفلات من العقاب.. قراءة تحليلية في فشل العدالة

وحــــــــــدة الدراســــــــــــــات والأبحـــــاث
المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية
تُظهر المعطيات التي تناولها هذا التقرير أن قطاع العدالة في ليبيا يقف على مفترق طرق خطير، إذ يعاني من تآكل مؤسسي عميق وتحديات هيكلية مزمنة تفاقمت بفعل الانقسامات السياسية، واستمرار هشاشة الدولة، وسيطرة الجماعات المسلحة على مؤسسات السيادة، وعلى رأسها منظومة القضاء.
وإن العدالة، باعتبارها الضامن الأهم لسيادة القانون وحقوق الإنسان، أضحت في الحالة الليبية أداة هشّة، مجزأة، وأحيانًا مسيّسة، لا تمتلك القدرة أو الإرادة للاضطلاع بدورها في مكافحة الإفلات من العقاب أو فرض معايير المحاسبة القانونية.
ولقد كشفت الشهادات الحقوقية، وتحقيقات منظمات المجتمع المدني، والبيانات المحلية والدولية، عن واقع مرير يسود فيه الاعتقال التعسفي، والتعذيب، وظروف الاحتجاز غير الإنسانية، وسط ضعف الرقابة القضائية، وانعدام المحاسبة الفعلية، واستمرار محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، في مخالفة صارخة لمبادئ العدالة الانتقالية والمعايير الدولية.
والأدهى من ذلك، أن الإطار القانوني الوطني، بما فيه قانون العقوبات الليبي والتشريعات المكملة له، لا يزال محكومًا بنصوص تقليدية قمعية، تعود إلى عقود ماضية، وتفتقر إلى أي انسجام مع منظومة القانون الدولي، خاصة فيما يتعلق بتجريم الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
ونحن في “المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية”، نرى أن مسار بناء الدولة الليبية الحديثة لا يمكن أن يتحقق دون مراجعة جذرية وشاملة لمنظومة العدالة، تتجاوز الحلول الشكلية أو المؤقتة، وتُبنى على أساس سياسي وقانوني واضح، يضمن الاستقلال الكامل للسلطة القضائية، ويؤسس لعملية تشريعية متكاملة تنسجم مع الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها ليبيا، وتُعيد الاعتبار لحقوق الأفراد وحرياتهم.
وإن الإصلاح المطلوب لا بد أن يتضمن، بشكل عاجل، إلغاء كافة القوانين التي تقيّد الحريات أو تُخالف الالتزامات الدولية، وتعديل قانون العقوبات بما يتيح ملاحقة ومعاقبة مرتكبي الجرائم الكبرى، سواء أكانوا فاعلين مباشرين أو مساهمين في مواقع سلطوية.
كما ندعو إلى إنهاء المحاكمات العسكرية للمدنيين بشكل نهائي، وتعزيز الرقابة المدنية والقضائية على كافة أماكن الاحتجاز، بما يضمن إنهاء حالات الاعتقال خارج إطار القانون، وضمان المحاكمة العادلة للجميع.
وعليه، فإننا نعتبر أن ملف العدالة لا يجب أن يُنظر إليه من زاوية قانونية بحتة، بل هو ملف سيادي وسياسي بامتياز، يرتبط ارتباطًا عضويًا بإعادة بناء العقد الاجتماعي الليبي، وتحقيق المصالحة الوطنية، وترسيخ الأمن المؤسسي.
ونؤكد أن عدم التعامل الجاد مع هذا الملف سيظل يشكّل مهدد رئيسيا للأمن القومي وعامل تقويض دائم لأي جهود سياسية نحو التسوية والاستقرار، كما سيُبقي الباب مفتوحًا أمام فصول جديدة من العنف والانتهاك والإفلات من العقاب. وإن ليبيا في حاجة ماسّة اليوم إلى عدالة عادلة، لا انتقائية، قائمة على مؤسسات مستقلة، وقوانين حديثة، ورقابة فعالة، وإرادة سياسية حقيقية، قادرة على استعادة ثقة المواطنين في الدولة، وإنهاء حالة الفوضى القانونية التي باتت جزءًا من الأزمة العامة في البلاد.
لتحميل الملف من هنا ….